أدركتُ منذ تلك اللحظة، أن شيئًا ما قد غادرني، رجلٌ وحيدٌ تمامًا.. عليه فى النهاية أن يلمحَ السعادة، عشتُ طويلا أردد هذه العبارة حتى ضاع اسم قائلها فى نوبات الصداع النصفى المتكررة، والزيارات المتقطعة لفقدان الذاكرة، ربما يكون قائلها هو راؤول سوريتا.
على أى حال كانت لحظة عنيفة، تلك اللحظة التى سمح لى فيها أن أرتدى بنطالا وقميصًا لأصافح الغرباء، حينها استحالت كل ملابس النوم اللائقة بطفل مدلل، إلى ملابس رسمية قضت على كل محاولات النوم الهادئ، حتى الألعاب أصيبت بداء المفاصل بعد محاولات مستميتة لمنعها من التهور فى الحركة حفاظًا على هدوء العجائز والنائمين، والهائمين فى أمان الله.
هناك هوة إلى جوار القلب لا يملأها شيء، وكان عليَّ أن أحتفظ بالضجر وموجات الغضب العاتية، وعناقيد الحزن المدببة فى هذه الهوة، لأبتسم كما يليق بكائن يرغبُ فى عدم إثارة التنازع.
الذين لا يثيرون التنازع لا يعرفون العبوس، ابتسم. من حقك أن ترى الناس وهم يرونك رائق البال، ومن حقهم أن يسعدوا ولو للحظة.. لحظة عبورك من أمامهم.
لم أكن أعرف أن على هؤلاء أن يتحاشوا النظر إلى الشجر الوارف خارج النافذة، لأنها تطل على ساحرات بإمكان أى منهن أن «تسخطك» شخصًا مذمومًا وسيئ السمعة.
الشرفات عالية، والنوافذ مسيجة بنظرات اللوم، والطرق مليئة بالعادم والسيئين، والخوف أو قُل سذاجتي.. كل ذلك كان سببًا فى أنى لم أرَ الشارع من أعلى أو من أسفل.
لا أذكر أننى بصقتُ يومًا ما على الأرض، ليس لأن حيائى يمنعنى أو لأنى لا أرغب فى إثارة القرف، ولكن لأن الذين يخشون التنازع لا يبصقون على أرض مشوا عليها من قبل، أو ربما تسع خطواتهم يومًا ما.
القواعد أسوار هائلة، لذا لم أبذل أى محاولات لشرخها.. الأرصفة، وأماكن عبور المشاة، والشحاذون الدائمون فى الحي، والأزهار والفراشات فى الحدائق يعرفونني، فقد كنتُ دائمًا ملتزمًا بهم.
كنت أرى الثقة جدارًا هشًّا.. رقائق من البسكويت يهشمها طفل لم يعرف بعد كيف يحافظ على طعامه المفضل، لذا تهشمت ثقتى فى «فرجيل» لمجرد أنه كان يردد فى مشهد هزلى «الزمن يغير كل شيء، بما فى ذلك أذهاننا»، «فرجيل» كان يردد هذه المقولة الخدعة وسط جمع من الناس يحتاجون التفاؤل للاستمرار فى اللعبة السخيفة/الحياة، لأنهم لم ينضجوا بما يكفى لخوض تجارب الانتحار.
التفاؤل كلمة سيئة السمعة، لا يستخدمها غير محترفى الكذب، والفاشلين، والأطباء ذوى الابتسامات البلاستيكية التى دائمًا ما يختفى شبح الموت خلف نظاراتهم الغليظة.
لم ترق لى هذه الكلمة أبدًا، فهى تشبه العاهرة إلى حد كبير، تمنحك متعة مؤقتة، لكنها لا تَهِبُك قلبها أبدًا، لذا لا نمنحها أكثر من ثمن نزهة فى مدينة ملاهى جيدة للأطفال، وعندما ندوخ نضع رؤوسنا على الوسادة لكى نعطى فرصة للخدر أن ينسحب تدريجيًّا وفى الصباح نستعيد الألم.
«بريخت» له عبارة أيضًا لا تقل سوءًا على الأقل بالنسبة لى عما قاله «فرجيل» وهى «ليس شرطًا أن تظل الأشياء على ما هى عليه؛ لأنها كذلك الآن»، ويبدو أنه هو الآخر كان يحاول الهروب من شبح الانتحار، أو يمنى نفسه بأن ما يرجوه سيحدث يومًا ما.
ليس ثمة مبرر للصبر على الألم، والتواؤم معه، لا ينبغى أن ننتظر كثيرًا لكى تدهشنا لحظة تبدل وجهه القبيح لتستحسنه عندما تراه فى المرآة؛ لأنه حتى لو حصل ذلك فبعد قليل ستخفت الدهشة، وسيصبح الأمر عاديًّا ومثيرا للملل.
العبارتان لم أقدرهما كثيرًا، خاصة أن الطريقة الأكثر نجاعة بالنسبة لى لجلب الهدوء الداخلى بعيدًا عن جلسات العلاج النفسى وحبوب الـ»تجريتول» هى ملاحظة الحروف والإشارات، وإذا أردت عبارة أفضل من تلك فإليك ما قاله هنرى ميلر: إننا بحاجة إلى الخيال كى نواجه تلك الفظاعات التى تفرضها علينا الأشياء.
kasemsameh@hotmail.com