■ تعتبر المحاورة الكبرى التى دارت رحاها بين قطبين كبيرين من أقطاب الثقافة العربية المفكر المغربى الدكتور «محمد عابد الجابرى» (صاحب موسوعة نقد العقل العربى)، والمفكر والناقد السورى الكبير «چورج طرابيشى»، الذى رد على موسوعة الجابرى بموسوعته الشهيرة (نقد نقد العقل العربى) على مدار أكثر من ١٥ عاما. هى أهم ما طرحه المثقفون العرب حول العقل العربى واستعصاءاته وعثراته وأمراضه الفكرية التى تحول دون ولوجه إلى عصر الحداثة وما بعدها.
■ طرح الجابرى العديد من الأطروحات حول طبيعة هذا العقل، لكنه أرجع ما حدث للعقل العربى من تراجع فى النهاية، إلى مؤامرة طالته وإلى عوامل خارجة عنه أفسدته وعطلته.
■ بينما رد طرابيشى وبرهن بالدليل القاطع على أن العقل العربى فاسد بطبيعته، ووفقا لذاته دون أن تساهم أو دون أن تتسبب أى عوامل خارجة عنه فى إفساده وهو ما برهن عليه طرابيشى بكتاب كامل فى هذا الشأن.
■ كان طرابيشى قد أصدر مجلده الرابع من نقد نقد العقل العربى تحت عنوان (العقل المستقيل فى الإسلام؟)، وفيه نفى أن تكون استقالة العقل العربى قد حدثت من جراء غزو خارجى، إلا أنه أراد إبراز دور (الذات لا الغير) فى هذه الاستقالة فى كتابه الأخطر (المعجزة أو سبات العقل فى الإسلام).
■ هذا وقد استشهد طرابيشى على ذلك بتعامل ذلك العقل مع كتاب الله نفسه، ورفض ذلك العقل لثوابت وتأكيدات النص المقدس التى لا تحتمل إلا التسليم والتصديق، فمثلا أكد الله تعالى من خلال (محاورة قرآنية طويلة وممتدة بطول القرآن الكريم وعرضه) أطرافها (المشركين/ النبى/ الله تعالى) على أنه لن يخص نبيه (بأية آيات. بمعنى معجزات حسية يراها الناس) وأن معجزته هى (كتابه المعجز وفقط)، بينما راح العقل العربى ينفى ما جاء بالكتاب الإلهى المقدس، متجاهلا ما أكدته آياته مرارا وتكرارا من عدم وجود أية معجزات حسية يراها الناس للرسول (صلى الله عليه وسلم) وذاكرًا آلاف المعجزات للنبى، وهو عقل عجيب ومثير للدهشة فى آن!!!!
■ رصد (طرابيشى) تلك المحاورة الربانية الرائعة، والتى احتواها القرآن الكريم، والتى دارت رحاها بين المشركين الذين يشترطون على النبى أن يأتى بمعجزات كما جاء لغيره من الأنبياء السابقين عليه من طرف، وبين النبى الذى يذهب إلى ربه طالبا تسهيل مهمته ومنحه بعض المعجزات الحسية كى يقدمها لهؤلاء المشركين من طرف آخر ورفض الله تعالى طلب نبيه، ومعاودة النبى مرات ومرات وإلحاحه، ورفض الله تعالى مجددا، ثم تبيان الله تعالى لنبيه سبب عدم إرساله وتأييده له، وتسهيل مهمته بمعجزات حسية يراها الناس بأعينهم؛ حيث قال تعالى مبينا لنبيه:
■{وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} صدق الله العظيم (٥٩) الإسراء.
■ وعلى الجانب الآخر، رصد طرابيشى ما جاء بكتب التراث الأشهر وما احتوته من معجزات؛ حيث رصد طرابيشى آلاف المعجزات الحسية للنبى فى ٧ كتب، هى لـ: (ابن هشام، والماوردى، والبيهقى، والقاضى عياض، وابن كثير، والحلبى، والخصيبى وغيرهم) هذا عند المسلمين السنة.
- وعند (الشيعة) تتجاوز المعجزات النبى إلى الإمام على (كرم الله وجهه) نفسه، والأئمة الأحد عشر، ليتخذ الموضوع مسارا تضخميا للمعجزات مضادا تماما ومخالفا حصرا لما جاء بكتاب الله!!!!
ولنذهب فورا إلى المحاورة الربانية القرآنية:
■ قال تعالى على لسان المشركين:
- {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} (٢٧) الرعد.
- ويقول تعالى أيضا على لسانهم: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (٥٠) العنكبوت.
- ويقول تعالى لنبيه: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ} (٥١) العنكبوت.
- وعلى لسان الكفار والمشركين يقول تعالى: {وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانتَظِرُوا إِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} (٢٠) يونس.
- وعلى لسان الكفار والمنكرين يقول تعالى أيضا: {وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِى السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا(٩٣)} الإسراء.
- ويقول تعالى على لسان الكفار والمشركين أيضا:
{لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَك نَذِيرًا} (٨) الفرقان.
- ويأمره ربه جل وعليّ: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِى خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّى مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} (٥٠) الأنعام.
- ويرد المشركون والكفار: {قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولًا} (٩٤) الإسراء.
■ ورغم كل هذه المحاورة الإلهية التى تقطع بأن النبى هو (نبى بلا معجزات حسية يراها الناس)، فإن العقل العربى المسلم سنيا وشيعيا، رفض ذلك وأصر، إلا أن يجعل للنبى آلاف المعجزات الحسية أسوة بمن سبقوه من بعض الرسل والأنبياء، حتى ولو كان ذلك بالمخالفة لكتاب الله ولا نجد ما نقوله سوى ما قال الإمام عليّ كرم الله وجهه (نعوذ بالله من سبات العقل)!!.