تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
وفيما يخصنى شخصيا أنا الذى لم أجد أية فرصة للقائه.. فإننى لم أزل وسأظل دوما محتفظا بصورة عبقرية حفرها فى ذهنى أحد تلاميذه هو أستاذ الفيزياء (الطبيعة وفق تعريف زماننا المدرسي) الأستاذ أمين تكلا والذى ترك آثارا لا تمحى فى ذاكرتي.. سألت أمين بك تكلا كما كنا نسميه نحن طلبة مدرسة الملك الكامل الثانوية بالمنصورة هل كان سلامة موسى ماركسيا؟ فقال بهدوء وقور.. فى الأمور المعقدة والتى تمثل خطرا اعتاد سلامة موسى أن يرتدى بدلة كاملة ورباط عنق أنيقا ويقف على شاطئ نهر الحدث فلا هو انصرف ولا ابتلت ملابسه الأنيقة، وأستطيع أن أقول إننى كلما قرأت فى كتابات سلامة موسى أو عن كتاباته تخيلته واقفا ومحاذرا من أن تبتل ملابسه. والآن سأحاول أن أتفهم معك عزيزى القارئ أبعاد هذه الشخصية الحائرة دوما والمحيرة دوما.. توفى والده وهو ابن عامين وكانت أمه تخشى عليه من عيون الحاسدين بعد أن انتظرته طويلا وكانت تثبت فى أذنيه حلقا وتلبسه دوما ثيابا سوداء حتى ظنه الجيران بنتا. وفى صباه المبكر أصيب بمرض ألزمه الفراش لمدة عامين والتصق بأمه مريضا وهى تدور به على القديسين الأقباط والكهنة ومزارات المشايخ المسلمين وزاده ذلك انطواءً وكان أخوه الأكبر والوحيد مستبدا واعتبره سلامة متسلطا. ويروى ابنه رؤوف أن والده كان منطويا وقليل الصداقات ولكنها إن تحققت كانت صداقات قوية، وكان يردد دوما قول الجاحظ «أتمنى أن أموت وعلى صدرى كتاب مفتوح». فالكتاب هو صديقه الوفى. ويصفه صديق عمره المفكر محمود الشرقاوى بأنه «كان هادئ الطبع خجولا يتحدث بهدوء ولين ولكن قلبه يحتوى على بركان متقد من الصلابة والتحدى وتنطوى عواطفه على بركان من العناد والجرأة، فلم يكن سلامة رجل علاقات عامة، ولم يكن يعرف كيف يكسب الأصدقاء ولكنه كان يكسب كثيرا من التلاميذ والمحبين، وذات يوم سأله شاب عن رأيه فى مشروع كتاب حيث يستعد لإصداره كتابا عن شخصية مرموقة من أعلام عصره.. أجابه سلامة موسى ساخطا «إخص» ويمضى الشرقاوى واصفا سلامة موسي. «لقد عاش سلامة موسى بين ثلاث طوائف من الناس.. قليلون يقدرونه ويحبونه وكثيرون مصدومون كارهون وأكثرهم سمعوا من الكارهين فكرهوا وانصرفوا مصدومين وأكثر هؤلاء من رجال الثقافة التقليدية» ( محمود الشرقاوي- سلامة موسى المفكر والإنسان- دار الهلال- ص ٨٤) ومن تجليات سخطه موقفه الحاد جدا من مسألة الشعر العربى إذ يقول «لقد سئمنا قوافيه الرتيبة التى تشبه دقات طبول السودانيين» ويتحدث واحد من محبيه وهو غالى شكرى قائلا: «إن غضب سلامة موسى يعود إلى التناقض بين ما تعلمه من الرواد الأوائل فى مصر وأوروبا من أفكار وبين المجتمع المصرى المتخلف، والحقيقة أن اندفاع سلامة لمحاولة تغيير الواقع المصرى متخطيا الثقافة السائدة والمحافظة كانت مهمة صعبة أمام كل رواد التنوير». (غالى شكري- سلامة موسى وأزمة الضمير العربى (١٩٦٢) ص٥) وكان سلامة موسى يفلت صياغات تستثير سخط القارئ ففى كتابه «هؤلاء علموني» يقول إنه بعد أن التحق بالجمعية الفابية بلندن وجد أن هذه الجمعية قد حولته من إنسان شرقى متوحش إلى إنسان أوروبى متمدن» ويعلق فكرى إندراوس على ذلك متسائلا «كيف فات سلامة موسى أن الإنسان الأوروبى المتمدن خاض حربين عالميتين قتل فيهما عشرات الملايين من البشر وكيف استخدم فى نهاية الحرب الثانية وبدون مبرر القنابل الذرية ضد اليابان التى كانت على وشك الاستسلام؟» (ص٢١٨) وفى مجلة الرسالة الجديدة (عدد أغسطس ١٩٥٤) كتب سلامة موسى «إنه لا يوجد بين أدباء مصر أديب واحد يستحق أن يحمل التاريخ كتاباته إلى الأجيال القادمة» وقد ظل سلامة موسى محاولا أن يحلل نفسيته وتأثر كثيرا بتحليلات فرويد وحاول أن يشرح نوازعه وانفعالاته ولكنه لم ينجح. ويعلق على ذلك قائلا «لقد انتفعت كثيرا بهذا الاتجاه السيكولوجي، ولكنى لم أنتفع به فى حياتى اليومية، لأننى على الرغم من دراستى السيكولوجية مازلت أعيش وفق ما نشأت وتربيت عليه أيام طفولتى إلا القليل، بل القليل جدا الذى استطعت أن أنفضه عن نفسى من أخلاق وعادات ذهنية طفولية، وأنا هنا شاهد على صحة التعاليم الفرويدية وهى أن للسنين الأولى من العمر أكبر الأثر فى التوجيه الأخلاقي؛ (هؤلاء علمونى ص ١٥٣) ويقول فكرى إندراوس: وإذا جاز لنا أن نصف شخصية سلامة موسى باختصار فهو إنسان واضح، حسن النية، صبور، معلم جيد فى كتاباته وفى أغلب علاقاته الشخصية ولكنه كان أحيانا سريع الغضب، سريع الحكم، بل قد يكون متهورا فى بعض الأحيان. وكان به قدر من الشفافية جعلته يقول غالبا ما بذهنه ولا يخفيه، أن اندفاع سلامة موسى فى أغلبه نادر الحدوث، فأفكار سلامة موسى كانت سابقة لعصره فلم يتلق الكثير من الاستجابة من جيله، بالإضافة لكونه قبطيا يحاول تغيير مجتمع هو فى أغلبه إسلامى مما أثار ضده التيار الدينى التقليدى المحافظ. وهو نفس ما عاناه لويس عوض. (ص٢١٩)، ويتحدث عنه وديع فلسطين فيقول إنه زاره فى بيته فوجده يلبس جلبابا أبيض وليس بيجاما رغم أنه كان يستحث المصريين فى الاقتداء بالملابس الغربية، وكان يدعو إلى تحديد النسل بينما أنجب ثمانية أبناء وبنات..
وكان سلامة فى حياته بسيطا بل ساذجا يختار من الثياب ما يؤدى وظيفة الملبس وليس ما يوحى بالأناقة، وفى نهاية أيامه كان راضيا عن نفسه وقد زاره وديع فلسطين وهو على فراش الموت فوجده متقبلا النهاية فى طمأنينة كاملة فقد أدى رسالته على خير ما يكون الأداء وأنى له أن يرحل متمتعا بسكينة نفسه بعد عمر قضاه كثير الثمرات، (وديع فلسطين- سلامة موسي، المفكر الذى عاش فى غده- مجلة القاهرة- العدد ٢٢- أكتوبر ١٩٥٨).
ولم نزل بحاجة إلى أن نواصل حديثنا عن سلامة موسي.