رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

تأديب "صناديق الموسيقى"!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«ليست العظمة بظهور المرء كما يظهر الممثل أمام المتفرجين فى خلقة مزوّرة من رأسه إلى قدمه، ولا فى هذه الأخيلة الذهبية التى تملأ رءوس الأغنياء كأنها أرواح الذهب، ولا فى نحو ذلك من السخافات (العظيمة) التى ملأت الشرق كله. ولكن العظمة أحد شيئين: علم منتج، أو عمل مثمر». (مصطفى صادق الرافعي، الإحسان الاجتماعي، مجلة «الرسالة»، القاهرة، العدد ٤٨٤، ١٢ أكتوبر ١٩٤٢).
هكذا تحدث مصطفى صادق الرافعى (١٨٨٠-١٩٣٧)، الذى وصفه شكيب أرسلان بأنه «نابغة الأدبِ، وحجة العربِ»، وقال عنه المُحَدِّث أحمد محمد شاكر: «إمام الكُتَّاب فى هذا العصرِ، وحجة العربِ».
إنه ينكأ الجرح ويضع إصبعه على أصل الداء، حين ينتقد صاحب «تاريخ آداب العرب»، و«وحى القلم» أولئك الذين يملأ الواحد منهم الدنيا صخبـًا، فإذا جئت إلى عمله وعطائه وإبداعاته، وجدته هباء منثورًا. اللافت للانتباه أن «هؤلاء الذين لا يعملون يؤذى نفوسهم أن يعمل الناس» كما قال د.طه حسين؛ لذا تجدهم يهيلون التراب على العطاء المميز والإنتاج المحترم والإبداع المتفوق، وينالون من كل اسمٍ يستحق التقدير، بأى طريقةٍ كانت: الإقصاء والتهميش والاستبعاد، فإن لم يكن.. فالتشويه.
لم يحصل الرافعى فى تعليمه النظامى على أكثر من الشهادة الابتدائية. مثل عباس محمود العقاد فى تعليمه، فكلاهما لم ينل شهادة غير الشهادة الابتدائية. كذلك كان الرافعى مثل طه حسين صاحب إعاقة دائمة هى فقدان البصر عند طه حسين وفقدان السمع عند الرافعي. ومع ذلك فقد كان الرافعى مثل زميله طه حسين من أصحاب الإرادة الحازمة القوية فلم يعبأ بالعقبات، وإنما اشتد عزمه وأخذ نفسه بالجد والاجتهاد، وتعلم على يد والده وكان أكثر عمل عائلته فى القضاء.
يقول الرافعى فى مقالته التى نحن بصددها:
«العظمة خلق إنسانى يوجده العلم أو يوجد هو العمل الإنسانى العظيم. فإن لم يكن علم صحيح، ولا عمل صحيح، فاجمع بين الماء والنار قبل أن تجمع بين النفس والعظمة. وقد أرى الرجل من عظمائنا وهو من تعاظمه لغناه أو لمنصبه أو لجاهه أو لحسبه، كأن رأسه صندوق من صناديق الموسيقى، وكأن كل حركاته وكلماته إنما توقع توقيعـًا منتظمـًا مع (النفخة) التى تخرج من هذا الصندوق، ومع ذلك فلا أكرمه ولا أجد له فى نفسى من المنزلة، ولا أحفل بتلك العناصر الأربعة التى أنشأت عظمة من الغنى أو المنصب والجاه والحسب، إلا كما يكون فى نفسى لبعض قطع من الخشب والحديد والمعدن والنحاس، وهى العناصر التى تصنع منها الأدوات الموسيقية».
إن عقدة الجاه والنفوذ والعائلة، أو الشهرة والأضواء والنجومية، أصابت كثيرين بإعاقة تحول دون شعورهم بأهمية التواضع الإنسانى واحترام الآخرين وعطائهم. دعونا نتوقف عند وصف الرافعى هؤلاء بأنهم يشبهون «صناديق الموسيقى» التى تعزف لحنـًا مكررًا مملًا هو: الاستعلاء. معزوفة العظمة عادة ما تكون على يد عازف يدرك فى أعماقه أنه أقل شأنـًا من أهلم العلم والمعرفة والإبداع، وبالتالى فإنه يلجأ إلى حيلة دفاعية عنوانها التهجم على الآخرين والحط من شأنهم، عسى أن يرفع ذلك من مقامه ويرسم هالة زائفة حول شخصه.
والحق أقول، إننا نرى من هؤلاء نماذج تبعث على الشفقة أكثر مما تثير الضحك. نراهم على الشاشات منتفخى الأوداج، وفى الاجتماعات والمؤتمرات واللقاءات، وحتى على مقاهى المثقفين ومجالس الوجهاء والأثرياء، يحاولون الإيحاء لك بأنهم صنفٌ آخر من البشر، وسماء أخرى لا تُمس!
غير أن الحقيقة غير ذلك، والتواضع هو أساس العظمة البشرية، والانفتاح على الآخرين وتبادل المعرفة والثقافة على جسر المودة هو طريق ارتفاع مقام المرء فى أعين الناس. الإنسان السوى يخلق سياقات جديدة، ويستخدم لغات تواصل مختلفة ليصل إلى الجميع، أما الذى ينصّب نفسه وليـًا على الفكر أو الثقافة أو الفن، وشكله، وقوامه واتجاهاته، فإنه عاجز عن العطاء، لأنه ببساطة محدود القيمة قليل المعرفة.
يقول الرافعي:
«العظيم ذاتٌ مبنية على مبدأ، وما دام كذلك فهو عظيم فى خلقه وفى عمله، ولا يسلب هذه العظمة منه إلا الموت. على أن التاريخ يقوى على الموت فيستلبها منه، ويحفظها لصاحبها العظيم، ثم ينفض عليها صبغة الخلود، فإذا هى حياة ثانية لاسم من الأسماء الخالدة التى لا تموت إلا حين يموت الموت! وإذا كانت الذات مبنية على مبدأ، فيستحيل أن يسقط الرجل العظيم وذاته قائمة».
نعم، يستحيل أن يسقط الرجل العظيم وذاته قائمة. تذكر هذا جيدًا حين تجد أمامك أحد «صناديق الموسيقى» فى منطقة وسط البلد أو تلك اللقاءات المتلفزة.