هل يحملون سوى معاولهم التى يهدمون بها مدن القمع والتهميش والتنكيل بالعقول والطيور والزهور، ليقيموا الممالك على أعمدة العدل، تحت ظل الحب؟!
يزرعون الجمال، لنحصد جميعنا الخير والحق، والجمال، والشمس الذهبية.
هل يملكون سوى ثمانية وعشرين حرفا، يشكلون بها مدنا فاضلة على أنقاض المدن، التى شيدها الجهل وأهله بأسلاك شائكة، وعلق على جدرانها كماشات، وسياطا، وعيونا مفقوءة، وأسنانا مقلوعة؟!
هل يملكون سوى ملايين اللوحات، التى تكشف كم هى حقارات الظلم، والإقصاء؟!
يعزفون آلاف النغمات، والقوافى، التى أبت أن تعلو فوقها موسيقى الجنازات، التى يعزفها الجهل لتشييع الحب.
لا يملك الشعراء سوى هذه الأدوات، يدقون بها أجراس المدينة، ليستيقظ الجميع للصلاة فى عيد الحب. ويدافعون بها عن المهمشين والمقموعين والمقهورين على رأسهم المرأة فهى الحبيبة والملهمة وأصل الحياة وسرها.. لم يهمش شاعر حقيقى المرأة ولم يتجاهل دورها الحيوى على هذه الأرض وليس هناك شاعر خلده التاريخ إلا واقترن اسمه بامرأة فى الوقت الذى كان فيه العالم القديم ينظر للمرأة باحتقار فأهل العصر الجاهلى وأدوها وحرمتها شريعة «مانو» الهندية من التملك وكانت تحرق حية مع زوجها يوم موته وذكرتها شريعتهم: «ليس الموت والريح والجحيم والسم والأفاعى والنار أسوأ من المرأة». واستعبدها اليونان فكانت لديهم مجرد سلعة تباع وتشترى.
وأذلها الرومان بـ«اتفاق السيادة» الذى منح للرجل حق السيادة عليها إذا تزوجها. ولم يكن لها الحق فى التصرف فى أى شيء لأنها من وجهة نظر أهل هذا العصر ليست مؤهلة للتصرف فيما تملك.
واعتبرها مجتمع روما: «رجس ويجب ألا تأكل اللحم وألا تضحك ولا تتكلم وكل وقتها للخدمة».
وكان اليابانيون قديما يحلقون شعرها ويجبرونها على إظهار الحزن والبؤس بعد وفاة زوجها.
وسمح القانون الإنجليزى للرجل أن يبيع زوجته، وأعلنت الثورة الفرنسية تحرير الإنسان وتجاهلت المرأة ونص قانون الدولة على أنها ليست أهلا للتعاقد دون موافقة وليها إن كانت غير متزوجة.
وحكم عليها العرب حسب شكلها ومدى جمالها أو قبحها فقد قيل لأعرابى صف لنا شر النساء فقال: «شرهن ناحفة الجسم، القليلة اللحم، المحياض، الممراض، المصفرة المبشومة، العسرة المشئومة، كأن لسانها حربة، تبكى من غير سبب، وتدعو على زوجها بالحب، عرقوبها حديد، منتفخة الوريد، كلامها وعيد وصوتها شديد، تدفن الحسنات، وتفشى السيئات، تعين الزمان على زوجها، ولا تعين زوجها على الزمان، إذا دخل خرجت وإذا خرج دخلت، وإن ضحك بكت، وإن بكى ضحكت، تبكى وهى ظالمة، وتشهد وهى غائبة».
لم ينصف هذه المخلوقة الرقيقة التى لا يكون للحياة معنى بدونها سوى الشعراء على مر العصور فهم وحدهم الذين عرفوا قيمتها وقدروها حق قدرها، فوصفها المتنبى مختصرا المرأة فى محبوبته قائلا:
«نشرت ثلاث ذوائب من شعرها/ فى ليلة فرأيت ليالى أربعا/ واستقبلت قمر الزمان بوجهها/فأرتنى القمرين فى وقت معا»
ويقول مجنون ليلى قيس بن ذريح حينما ارتحلت حبيبته وهو يقبل أثر بعيرها: «وما أحببتُ أرضكم ولكن/أقبل أثرَ من وطئ الترابا/ لقد لاقيتُ من كلفٍ بلبنى/بلاء ما أسيغُ له الشرابا/ إذا نادى المنادى باسم لبنى/عييتُ فلا أطيق له جوابا».
ويقال إنه عندما اشتد على قيس الوجد والعشق اصطحبه والده إلى الكعبة لعله بدعائه هناك يبرأ من حب ليلى:
ولما طلب منه والده أن يتعلق بأستار الكعبة ويدعو الله الفرج، وقف قيس صارخًا (اللهم زدنى لليلى حبًا وبها كلفًا ولا تنسنى ذكرها أبدًا ولا تشغلنى عنها) فاستهجنت الجموع ما يدعو به قيس وقاموا بضربه وإخراجه من الحرم وأخذ يردد بصوت واهن ناظرا إلى السماء وهو محمول على أعناق الرجال: «ها أنت سمعت. ها أنت رأيت».
ويحكى أن شاعرا حكيما قيل له: إن ابنك قد عـشق. فـقال: الحمد لله. الآن رقت حواشيه، ولطفت معانيه، وملحـت إشاراته، وظرفت حركاته، وحسـنت عباراته، وجادت رسائله، وجلت شمائله، فواظب المليح، وجـنب القبيح.
وسـئل آخر: هل سلم أحد من العشق؟ فقال: نعم.
الجلف الجافى الذى ليس له فضل ولا عـنده فهم.
هل كان يملك هؤلاء المحبون وغيرهم من الشعراء الحقيقيين سوى السخاء فى محبة ونصرة المرأة والتثوير ضد كل ما يمارس بحقها من احتقار وإقصاء وتهميش؟!