لم تلتق يومًا بـ«كافكا»، تحاشت كل الطرق المؤدية إلى سعاله وخوفه اللذين لا يتوقفان ليلًا أو نهارًا. لم يرق لها ضجره من الحياة، والكتابة، وهروبه الأبدى من اللقاءات الحميمة بميلينا، كما لم يرق لها محاولاته البائسة ليحظى بعطب فى الذاكرة ربما يتعثر فى السعادة.
كانت تتمنى أن تحتمل وطأة التنزه معه على الشاطئ ولو لساعة واحدة لتقول له «لا يمكن للإنسان أن يحيا دون ذكريات». نعرف أن الذكريات لا تخلو من الأسى، لكنه هو من قادك إلى «باولا» وربما هو نفسه ما قادنا إليك يا «ابنة الحظ»، ونعرف أيضًا أن ذاكرتك موغلة فى الألم، لكنك رأيتها ضرورية لمواصلة الحياة التى لا تكون حقيقية إلا عندما تكتبين فصولها على مهل، فأنت تمارسين الكتابة لتواجه فصولك يا جميلة رياح النسيان.
ذاكرة «كافكا» أعيته، وخوفه من المغامرة، والسير أسفل قبعته فى المساءات الكئيبة جعل من العالم مكانًا ليس مناسبًا للموت فى رحمة الله، فهذا البائس المغرق فى الوحدة والفزع لم يكن يطمح فى أى شيء سوى مزيد من العزلة، إذ بدت له إرادة تغيير العالم عقيمة كما قال هنرى ميلر. أما أنت يا إيزابيل فقد فهمتِ أن أولى صفات الحب هى القوة، لذا صارت حياتك بشكل مختلف.
أحببت ابنتك التى آلمك اصفرار شراشفها من صلف الألم، تصدع رأسها تحت وطأة مرض نادرًا ما يحدث إلا للودعاء، لم يصب ذاكرتك بالتشقق، ومن رسائلك المطمئنة للجدة العاجزة عرفنا أن للفقد لدغة لا يبرأ منها إلا كل ذو روح عظيمة.. ومن له روح مثل روحك يا صاحبة «بيت الأرواح».
لم يحب «كافكا» الحياة لأنه رأى كل ما فيها مسوخًا، أما أنت فمغرمة بالحياة لذا كل شيء صار لك ممكنًا، ولمَ لا وابن الرومى قال لنا من قبل إن «للقلب المغرم كل الأشياء ممكنة».
مآسى «كافكا» ضاعفت من سخطه وعزلته، أما أنت يا عنيدة فقد علقتِ على جدار غرفتك المقولة التى آمنت بها حتى النخاع: «عندما تمر بعذابات عظيمة فى حياتك يصبح كل ألم إضافى من الأمور التافهة».
الكتابة بالنسبة لك يا إيزابيل تعنى الحياة، لذا لم تنشغلى بمن سيقرأ لك، وعبر سلسلة من الإرادات الصغيرة حققت نتائج كبيرة كما قال بودلير، وفى اللحظة التى عرفتِ معها معنى النفى والاغتراب رأيت أن حياتك بلا معنى ما لم تسجلى وقائعها بين دفتى كتاب، فبدأت العمل فورا غير عابئة بمصيرك ككاتبة اعتقادًا منك يا ابنة الليندى بـمقولة بودلير «العمل الفورى وإن كان سيئًا أفضل من التهويم».
تجاوزك الأربعين لم يمنعك من الحلم بالكتابة، النفى والغربة لم يسمحا لليأس بالفوت إلى قلبك الأخضر، كما لم يمثل انفصالك عن شريك حياتك الأولى أى عائق نفسى أو غيره، لذا لم تعرفى مسكنات الألم، لأنك لم تعيرى مسبباتها أدنى اهتمام، بل على العكس تمامًا كنت ترددين كل آن ما قاله ماركوس فى تأملاته: «لا تلتفت إلى الشخصيات السوداء عن يمينك وشمالك، بل امض أمامك سعيًا فى الطريق المستقيم لا تنحرف عنه».