كثيرة جدا، ومحيرة أيضا
ما قيل وما كتب عن موقف سلامة موسى من الاشتراكية ومن الماركسية. أما موقفه من
الاشتراكية فيتلخص فى كلمة واحدة «فابى»، وأما الماركسية فموقفه منها هو الحيرة
بين التأييد المحاذر، خوفا من الاتهام بأنه شيوعى، وهى تهمة كانت ثقيلة على مدى
عقود من منتصف العشرينيات وحتى رحيله. وكما كتب عنه أحد الباحثين فى سيرته ومسيرته
«فكرى أندراوس- سلامة موسى- الحالم فى عصر القلق ١٨٨٧-١٩٥٨». الاشتراكية كما يراها
سلامة يمكن أن يعرفها فى سطرين أو يشرحها فى ألف صفحة. فأما السطران فهما: «إن
المجتمع بما فيه من حكومة وأخلاق وأساليب فى العيش وآراء فى الدين واتجاه فى
السياسة والأدب والشعر يبنى كله على نظام اقتصادى ارتزاقى (يسعى أفراده إلى الرزق)
معين، فإذا تغير هذا النظام تغير المجتمع» (١٧٢)، ويقول فكرى أندراوس: «إن أول من
كتب عن الاشتراكية باللغة العربية شبلى شميل فى مقال بـ(المؤيد) سنة ١٩٠٨ (ولكننى
أعتقد أن هناك كثيرين سبقوا شميل، فمثلا نقرأ دراسة أكثر من رائعة نشرتها «المؤيد»
فى منتخباتها عام ١٨٩٠- ص٢١٩، ونشرتها «المؤيد» على أنها رسالة من أحد الفضلاء
القراء- وفيها رؤية صافية للفكر الاشتراكى المفعم بالماركسية)»، وإذا كان البعض يستعرض
كتيبه المعنون بـ«الاشتراكية» باعتباره معبرا عن أفكار سلامة موسى، فالحقيقة أن
سلامة موسى ظل يواصل الكتابة عن الاشتراكية بشكل أو بآخر طوال حياته. ويختار
الأستاذ فكرى أندراوس نموذجين من كتابات سلامة موسى عن الاشتراكية.. الأول دراسة
«سلامة موسى التفسير الاقتصادى للتاريخ مجلة الهلال ١٩٢٨»، ويقول فيها: «حاول
كثيرون من المؤرخين أن يجعلوا من التاريخ علما.. أى أنهم أرادوا أن يعللوا الحوادث
التاريخية بتعليلات طبيعية واقتصادية، ومن هؤلاء ابن خلدون، وفى كتابات ابن خلدون
أوهام كثيرة، ولكن الطريق الذى افتتحه هو الطريق السوى لدراسة التاريخ، وكان ذلك
فى القرن الرابع عشر، ولم يهتم أحد بدراسة هذا الموضوع حتى أتى مونتسكو فى بداية
القرن الثامن عشر، ثم بوكل الإنجليزى فى القرن التاسع عشر.. ثم كان ماركس أول من
وهب حياته ودراسته لهذه الفكرة والنظر فى نتائجها فى الماضى والحاضر والمستقبل، ثم
تطور بها، ليدرس تطور المجتمع من المشاعية البدائية إلى الإقطاع إلى البرجوازيين
من أصحاب المتاجر والمصانع، ثم كانت الثورة ضد النبلاء فى ١٧٨٧ لتحرير الرقيق حتى
يمكن أن يستخدمهم البرجوازيون فى مصانعهم. وبعد تفاصيل عديدة يسأل سلامة موسى عن
العوامل الاقتصادية فى انتشار الإسلام والمسيحية، ولا نعنى بذلك إهمال العوامل
الأخرى. فمن يتأمل القرآن والإنجيل يجد الثورة واضحة على الأغنياء والانتصار
للفقراء، ولهذا أيضا نجد أن أول الداخلين فى الدينين كانوا من الفقراء بينما حارب
العظماء فى مكة الإسلام. كما أن شيعة المسيح لم تتألف فى مبدئها إلا من الفقراء»،
ثم ينتقل سلامة موسى إلى موضوع مهم آخر، فيقول: «ويمكن أن نلخص العلاقة بين
الحضارة والثقافة بأن نقول إذا كانت الأمة زراعية نشأ فيها الأدب والفلسفة
المجردة، وإذا كانت صناعية نشأ فيها التفكير العلمى، وأخذت الآراء المستنبطة مكان
العقائد الموروثة فى الشئون الاجتماعية، ومعنى ذلك أن التفكير يخضع للحال
الاقتصادية التى يعيش فيها المفكر. وتقول نظرية التفسير الاقتصادى للتاريخ إن
الأحوال الاقتصادية الجارية فى الأمة هى التى تقرر فى النهاية سائر الأحوال ونظام
الحكم، فالأخلاق إذن هى نتيجة للأحوال الاقتصادية، بحيث إذا اختلفت هذه الأحوال
اختلفت الأخلاق».
«ولعلنا إذا ما تعاملنا
بهذا المنطق يمكننا أن نفسر ذلك على أوضاعنا الراهنة، ففى مجتمع يفرض كبار
المليارديرات فيه إرادتهم، ويستمرون فى فرض هذه الإرادة، ويصل الأمر إلى رفض فرض
تسعيرة جبرية حتى يمكن لكبار التجار نهب المزيد من الأرباح الجائرة، وتنمو فيه
ظاهرة الاستيلاء القسرى على أراضى الدولة ونهبها، ويحتاج الأمر إلى الشرطة والجيش
لانتزاعها من بين مخالبهم فى مجتمع كهذا، يصبح الغش فى الامتحانات شطارة وكسر
إشارات المرور شجاعة، وتحدى القانون أمرا عاديا، واستخدام البذاءات فى المسلسلات
والأفلام أمراً طبيعيا وتتدهور الأخلاق حتى فى العلاقات الأسرية وبين المحارم..
إلخ».
ويناقش سلامة موسى قضية
المرأة فيقول، إن «الفقر هو الذى دفع البدوى فى الجاهلية إلى وأد البنات، وفى
القرآن الكريم (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق)، ثم يسرع بنا إلى أوضاع المرأة
الأوروبية، فيقول «إن أوضاعها ارتبطت بالتطورات الاقتصادية.. ففى القرن ١٩ تحدث
كثير من المفكرين عن ضرورة منح المرأة حق التصويت والانتخاب فلم يأبه بكلامهم أحد،
ولا حتى المرأة نفسها، ولكن لما جاء القرن العشرون ودخلت المرأة فى المكاتب
والمصانع وصارت تكسب عيشها بعرق جبينها وكد يديها، ثم لما جاءت الحرب الكبرى وزاد
طلب المصانع للمرأة خصوصا بعد تعبئة كثير من الرجال فى الجيوش، شعرت المرأة
باستقلالها الاقتصادى فشرعت تطالب بحقوقها المدنية والدستورية ونالتها بلا أدنى
مقاومة. وقد تقرأ فى الجرائد الآن أخبارا عجيبة عن المرأة فى إنجلترا وفرنسا
وروسيا وأمريكا، وأن الفتيات أصبحن لا يبالين بالرباط الزوجى، وكيف أن الفتيات
يسلكن مسلك الفتيان، وإنما مرجع ذلك كله إلى أنهن حققن استقلالهن الاقتصادى»
(ص١٨٦). إنها العبارة الموجزة التى طالعها سلامة موسى فى كتابات ماركس وإنجلز...
وهى «الاقتصاد محرك التاريخ».
فسار بها لتفسير تطور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمعرفية فى مصر والبلاد العربية والإسلامية منذ الأزمنة القديمة، وسار معها حتى بدأ يفسر ما كان على زمانه من أوضاع. ونواصل.