قال تعالى: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (٢٤) تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (٢٦)» (سورة إبراهيم).
فالأزهر عبر تاريخه الممتد لعدة قرون مثله كمثل الكلمة الطيبة التى تؤتى أكلها كل حين، فما من «مفتى» فى بلاد المسلمين فيما عدا السعودية إلا وقد تخرج فى الأزهر، وما من عالم فى بلاد المسلمين من إندونيسيا إلى موريتنيا إلا وقد تخرج فى الجامع الأزهر، ولا يعترف فى العالم الإسلامى بعلماء فى الشريعة والفقه الإسلامى إلا لمن تخرج فى الأزهر، ويظل طلاب العلوم الشرعية جهلاء حتى يتخرجوا فى الأزهر.. هذه هى الحقيقة لمن جاب العالم الإسلامى شرقًا وغربًا. وعندما قامت المملكة العربية السعودية بإنشاء جامعة أم القرى للعلوم الشرعية لم يكن عندهم عالم لرئاسة هذا الصرح العلمى، فأحضروا من مصر علماء الأزهر، وترأس الجامعة فضيلة العلامة الشيخ/ محمد متولى الشعراوى، ولذلك تجده يقول مصر هى التى علمت الإسلام للدولة التى نزل بها الوحى، وعند افتتاح جامعة أم القرى قالوا للملك فيصل -رحمه الله-: «لقد أنشأنا جامعة تضاهى جامعة الأزهر»، فقال لهم فيصل: «ومن أين لكم بألف عام من الأزهر»، هو الذى حافظ على مدى عدة قرون على وسطية الإسلام والفهم الصحيح للعقيدة الإسلامية والفهم الصحيح لأحكام الإسلام.. الأزهر هو الكلمة الطيبة التى على مدار القرون. وأما الكلمة الخبيثة فهم الذين يهاجمون الأزهر بحسن نية أو بسوء نية، بهدف حميد أو بهدف خسيس، بعلم أو بجهل، وسوف تمر هذه الهجمة الجاهلية ويبقى الأزهر قلعة الصمود والتحدى.
نعم كلنا يعلم ما أصاب الأزهر من نكبات على مدار أربعة عقود، وهى تاريخ ظهور السلفية المزعومة المدعومة بأموال البترول، هذه السلفية المزعومة التى وزعت الكفر على بلاد المسلمين وعلى الشعوب الإسلامية بالقسطاس، ولعل الجهلاء لا يعلمون أن هذه السلفية المزعومة -والسلف الصالح منها برىء والمدعومة بأموال البترول- كان الهدف منها هو استخدامها لهدم حركات التحرر الوطنى ودعاة القومية العربية والتحرر من الاستعمار، وفى ذلك يقول المؤرخ البريطانى مارك كورتيس: «كان التحدى القومى للمصالح البريطانية متجذرًا فى رغبة الشعوب فى الشرق الأوسط، حيث أجبرت بريطانيا على تنفيذ عمليات لتصفية الاستعمار فى كثير من البلدان تحت الضغط الشعبى، وواصلت بريطانيا خوض حروب وحشية ضد هذه الحركات كما حدث فى مصر سنة ١٩٥٦، ومذابح فى كينيا، والتدخل العسكرى فى عمان، وشق التمرد الشعبى سنة ١٩٥٨، وقد اختارت بريطانيا وأمريكا دحر انتشار القومية العلمانية، وعندما قام عبدالناصر بطرد الإخوان سنة ١٩٥٤ وجدوا لهم ملاذًا آمنًا فى السعودية، بناء على نصيحة المخابرات البريطانية والأمريكية، وألحق بهم من فر من العراق وسوريا، وكان هؤلاء هم طليعة القوة الدينية التى استخدمت كمصد للقوميين العرب الذين يهددون المصالح البريطانية والأمريكية، وعندما قامت المخابرات الأمريكية بتجنيد سعيد رمضان، زوج بنت حسن البنا، وأسقط عنه عبدالناصر الجنسية تدخلت أمريكا لدى الأردن لحصول سعيد رمضان على جواز سفر أردنى، وتم تمويله لإنشاء المركز الإسلامى فى ميونيخ، كما لاقت مراكز الدعوة السلفية دعمًا من رابطة العالم الإسلامى، وخرجت الكتب التى تكفر القوميين العرب، وتعتبرهم حكاما مرتدين، خصوصا عندما اشتد الصراع بين القوميين العرب والمحافظين على أرض اليمن (حرب اليمن)، وعندما وصل الرئيس السادات إلى السلطة، وكان هواه مع الغرب وضد القومية العربية وضد عبدالناصر، سمح لهذه الهيئات بإعلان الحرب على عبدالناصر وفكره، ونشر الإخوان عشرات الكتب عن التعذيب فى سجون عبدالناصر بالحق أو بالباطل، المهم القضاء على القومية العربية التى تنادى بالتحرر من الاستعمار، وسمح للإخوان بالدخول للجامعات والقضاء على الفكر الاشتراكى المنتشر والمعادى للغرب، وزعم بأنه الرئيس المؤمن، وأن ٩٩٪ من أوراق الشرق الأوسط فى يد الأمريكان والـ١٪ فى يد مَن لا ندرى، والانفتاح الاستهبالى، وتوقف الإنتاج وهجرة الآلاف إلى بلاد الخليج، والتأثر بالدعوة السلفية، وانتشار الكتب التى تدعو لتكفير المجتمع والمخالفين لشريعة الإسلام.. إلخ، مما يعرفه القاصى والدانى، والقوة المالية التى كانت تقف خلف ذلك، وتجلى ذلك فى الدعم للجهاد ضد الغزو السوفيتى لأفغانستان، وتوجيه الضربات النهائية للقومية العربية على أيدى دعاة الإسلام السياسى (العراق- سوريا- ليبيا).. كل ذلك أوهن مؤسسة الأزهر العريقة، وغيب دورها الريادى على مدى عقود عديدة، ويكفى ما قاله المؤرخون عن نضال مشايخ الأزهر ضد الحملة الفرنسية، وقتل أعداد كبيرة من علماء الأزهر ودك الأزهر بمدفعية التنوير، ومدفعية بونابرات، ويكلل الأزهر المقاومة بقتل الحاكم العسكرى الفرنسى «كليبر» على يد طالب الأزهر سليمان الحلبى، وليس قتل الجيش المصرى أو السورى، ومن الأمور التى صدعت الأزهر الشريف هى حرص الجماعات السلفية المزعومة وجماعة الإخوان على اختراق الأزهر للاستيلاء على هذه المؤسسة العريقة، وفى سنة الإخوان التى حكموا فيها مصر كان مرشحا الشيخ عبدالرحمن البر، وهو عضو مكتب إرشاد فى الإخوان، ليكون شيخا للأزهر، وهكذا كان سيتم مصادرة الأزهر لصالح جماعة الإخوان أو جماعات الفكر السلفى المنحرف عن فكر السلف الصالح، ويكفى أنه فى سنة ٢٠١٢ قامت الجماعة السلفية بتوزيع ٣٠ ألف كتيب أثناء الامتحانات على طلبة الجامعة، تكفر فيها أصحاب العقيدة الأشعرية، وهى العقيدة التى يدرسها الأزهر لأبنائه منذ أكثر من ٤٠٠ سنة، وهى عقيدة الأكابر من علماء أهل السنة والجماعة.
الأزهر الذى حاضر فيه الأكابر، ومنهم العلامة نادرة الدهر ابن حجر العسقلانى والعينى والفيروزآبادى، مرورا بمحمد عبده وعبدالحليم محمود وجاد الحق والشعراوى وعلى جمعة.. إلخ، كوكبة من آلاف العلماء فى الشرق والغرب درسوا وعلموا العالم الإسلام، ولا يصح أن يقتطع شخص ما كتابًا يدرس فى الأزهر وبناء عليه يهاجم الأزهر، فالأزهر ليس كتابًا، ولكنه منهج، فالذى يدرس الأدب يدرس الشعر الجاهلى ما قبل الإسلام، ويدرس أدب الملحدين والمخالفين له فى العقيدة والملة، ولا يعنى ذلك أن نتهم الدارس بالإلحاد أو الجاهلية، فطالب الأزهر عليه أن يدرس أكبر قدر من الفقه بجميع آرائه حتى يميز الغث من الثمين.
إن الأزهر مؤسسة عريقة كمؤسستى الجيش والشرطة، وهدم المؤسسات يؤدى إلى كوارث تدمير الأوطان والإنسان، وإعادة بنائها يكون صعبا ويستغرق سنوات، لأن المؤسسات تكونت عبر تراكم مئات السنين، وهذا ما كانت تسعى له الدول الاستعمارية من هدم المؤسسات العريقة للدولة حتى لا تقوم لها قائمة، فالمخلصون لدينهم وبلادهم ليس أمامهم إلا دعم مؤسسة الأزهر، والمطالبة بتحسين أوضاعها، وإخراج المغرضين الذين تسللوا إليها فى غفلة من الزمان، لأنها المؤسسة الدينية الوحيدة فى العالم التى تستطيع هدم الفكر التكفيرى فى جميع أنحاء العالم، لما لها من مكانة لدى ملايين المسلمين، ولمنهجها القويم وعلمائها الأجلاء، ونحن جميعًا مع دعم الأزهر وتطهيره حتى يستمر فى أداء رسالته الدينية والوطنية الضاربة فى أغوار التاريخ.