لكننا لا نستطيع أن نتعرف على حقيقة «الفابية» التى التزم بها سلامة موسى، إلا إذا تعرفنا على من لقنه هذه الجرعة المتساهلة من الاشتراكية.. جورج برنارد شو (١٨٥٦ – ١٩٥٠)، وهو كاتب مسرحى أيرلندى النشأة، وقد تعرف عليه سلامة موسى شخصيا خلال إقامتهما فى لندن عبر «الجمعية الفابية»، وكتب سلامة عنه كتابا نشر بعد وفاته (سلامة موسى- برنارد شو- دار سلامة موسى للنشر والتوزيع ١٩٥٧). ونقرأ ما سجله لنا سلامة موسى عن الهمة الفابية وكراهيته الحانية للمجتمع الرأسمالى. «حياة برنارد شو كانت بائسة ولا توحى بأى مستقبل لهذا الفتى؛ فالأب سكير مدمن ولم تحتمل الزوجة فتركت الأب فى دبلن، وغادرت إلى لندن بصحبة الابنة تاركة الابن مع الزوج. وكانت الكنيسة الكاثوليكية تسيطر على الحياة الاجتماعية فى أيرلندا وتفرض عليها إرادتها وتحتقر الطائفة البروتستانتية التى ينتمى إليها شو. حصل شو على بعض التعليم الابتدائى ولم يتخطاه (ونلاحظ أن سلامة موسى قد فعلها هو أيضا) وعمل شو محصلا يجمع إيجارات المبانى التى تملكها إحدى المؤسسات الغنية، وشاهد بنفسه أحوال المستأجرين الفقراء وتعاطف معهم، وكان كل ما كتبه شو مقالا فى جريدة محلية تعكس شعوره بالتعاطف مع هؤلاء المستأجرين، وهاجم ما سمّاه «آلهة الكاثوليك»؛ فهو مؤمن بالله ولكنه لا يقبل هذه التعاليم التى تقول الكنيسة الكاثوليكية إنها إلهية. ثم ذهب شو إلى لندن ليقيم معيشة بائسة مع أمه وأخته.. وفى مكتبة المتحف البريطانى ثقف شو نفسه. وأخيرا، عرف شو طريقة للتأليف المسرحى الهادف.. وكتب قرابة ٦٠ مسرحية ربما كان أشهرها «الرجل والسوبرمان» التى صدرت عام ١٩٠٣، وقد بنى فكرة هذه المسرحية على أساس نظرية داروين (ونلاحظ أن سلامة موسى قد أصدر بعدها ببضع سنوات كتاب «مقدمة السوبرمان»، الذى بناه هو أيضا على أساس نظرية داروين. ثم مسرحية «بيجماليون» عام ١٩٢٥، ونال جائزة أوسكار على أحسن سيناريو عن المسرحية نفسها وقد اتخذها توفيق الحكيم أساسا لمسرحية نالت اهتماما كبيرا من الكتاب النقاد فى ستينيات القرن الماضى)، وكان برنارد شو يكتب مقدمات لمسرحياته يشرح فيها فكرة المسرحية وشخصياتها.. وما فيها من توجهات اجتماعية، وكانت هذه المقدمات دراسات بالغة الأهمية، ومنها ما امتدت صفحاته إلى مائة صفحة، وكثيرا ما كان يصوغ مسرحياته فى قالب كوميدي.. اجتماعي. وفى هذه الأثناء أنشأ برنارد شو بالمشاركة مع عدد من المثقفين «الجمعية الفابية» لنشر ما سمّاه «الاشتراكية التدريجية» (أى الفابية)، وقد أدى نشاط برنارد شو فى صفوف هذه الجمعية إلى نشوء حزب العمال. (وقد ظل سلامة موسى طويلا وهو يحتمى بالقول بأنه فابى ينتمى بفابيته إلى حزب العمال البريطاني)، ونستمع إلى سلامة موسى وهو يكرم شو وأمثاله فيقول: «الناهضون فى أوروبا هم علماؤها وأدباؤها وليسوا رجال الدين، هم: جاليليو الذى خالف الكنيسة وأثبت أن الأرض تدور حول الشمس وأن الأرض ليست مركز الكون، وهم مارتن لوثر الذى ترجم الإنجيل إلى اللغة الألمانية وانفصل عن الكنيسة الكاثوليكية وباباوات روما، هم دافنشى الذى قال إن الجبال كانت مغمورة بالمياه، وداروين الذى قدم للبشرية نظرية التطور. وإبسن الذى رفع شأن المرأة.. وكثيرون غيرهم». ويضم سلامة موسى إلى هذه القائمة برنارد شو، قائلا: «هؤلاء هم من حرروا الضمير البشرى من الخرافات والتقاليد والجبن الفكرى، وبعثوا الآمال فى مستقبل البشر على هذه الأرض». وخاض برنارد شو معارك سياسية وبخاصة فى «مأساة دنشواى»، وصرخ بأعلى صوت منددا بهذه الجريمة، ويقول سلامة عن موقفه: «إن موقف برنارد شو من قضية دنشواى جعلنى أحس وكأن شو واحدا منا نحن المظلومين المشنوقين، وقد بكى عليهم كما بكينا نحن».. وقال: «ولو كانت هناك أمة مدينة لبرنارد شو خارج أوروبا لكانت مصر، فإن الصفحات التى كتبها عن دنشواى تحمل فى غلواء الذهن والعاطفة ما يجعل تلك الصفحات فى عداد روائع الأدب العالمي، وسيعرفون منها حق مصر وباطل بريطانيا، ولكن مصر لم تفعل شيئا فى ذكرى برنارد شو، وكأنها تعيش فى ذهول لا تقدر القيم الأدبية والاجتماعية فى العالم، ولو كنا أمة عصرية لنقلنا جميع مؤلفات برنارد شو إلى اللغة العربية وإلى مسارحنا بعد تعريبها، ولو فعلنا ذلك لكانت هذه المؤلفات جديرة بأن تحدث نهضة اجتماعية وأدبية..». ويقارن سلامة موسى بين الموقف المصرى يوم وفاة برنارد شو ومواقف الآخرين؛ فقد أطفأت نيويورك كل أنوارها خمس دقائق حدادا، وأغلقت المدارس فى الهند يوما كاملا.. ونحن المدينين له بدفاعه عن شهداء دنشواى لم نفعل شيئا. وكان سلامة موسى يبرز أهم ما فى فلسفة برنارد شو الاجتماعية، ويحاول هو شخصيا أن يقتدى بها.. فهو ينتقد التعليم الثانوى والجامعى النمطى والجامد، ويقول: «ولكن خارج الجامعة يجد للفرد حرية مطلقة فى الاختيار. فالتعليم الجيد يحقق للفرد القدرة على التفكير المستقل، وهو ما لا يحققه حشو عقول الطلبة بما يعتقد الأساتذة أنه التعليم الجيد». ويقول: «وإذا كان برنارد شو ناقدا للتعليم فى عصره قائلا إنه تعليم سيئ، فإن التعليم عندنا نحن كارثى ويزداد سوءا، خصوصا فى مجال الفكر والدين، وتعبيرا عن التناقض الأبدى الذى عاشه برنارد شو، والذى نضج وتألق به»، كتب شو: «بين كل أمة وأمة حرب باردة وبين كل فرد وفرد حرب باردة وبين كل إنسان ونفسه حرب باردة»..
وكذلك عاش سلامة موسى طوال حياته.. ونواصل