«إن الذكى لا يمكنه أن يكون شيئا خطيرا، وإن الأحمق وحده هو الذى يمكنه أن يكون أى شيء».
نعم يا سيد دوستويفسكي، الحمقى خطرون للغاية، لم نعرف حتى الآن من هو أخطر منهم، وأعتقد أنك تتفق معى فى أن «حراس الليل» هم الأكثر حماقة دائما، ومن ثَمَّ الأكثر خطرا.
«حراس الليل» -أيها النبيل- هم الذين أوعزوا إلى موسولينى أن يشترى قصرا لـ«جابرييل دانونزيو» كى يتلهى به عن النضال من أجل الحياة، من أجل الفن، «حراس الليل» أسكتوا جابرييل، وأسكتوا كثيرين من قبله ومن بعده كما تعرف.
«حراس الليل» مريضون بالشك، وأظنك تعرف أن «الشك سادية الأرواح الناقمة» كما قال إميل سيوران، لذا نقموا على الوسيم «رامبرانت»، حاصروه فى غرفته المعتمة رغم كل محاولاته المستميتة لإقناعهم بما قاله بول كلي: «ليس على الرسام أن يرسم ما يراه، بل ما سوف يرى»، و«أن الفن لا يعكس المرئي، بل يجعله مرئيا».
«رامبرانت» -لفرط براءته- لم يعِ أن هؤلاء لن يستوعبوا أن «بعض الرسامين يحولون الشمس إلى بقعة صفراء، والبعض يحولون البقعة الصفراء إلى شمس» أو كما قال بيكاسو المهووس بالشهرة والمسكون بالغرابة، وأنهم أيضا لن يغفروا له أبدا جرأته فى حبس نصف وجوههم الصلدة فى العتمة، لا أحد غيرهم يمتلك العتمة، يغيبون فيها من يريدون، ولا أحد يتحدث عنها إلا هم.
لا عليك يا سيد «رامبرانت» فـــ«حياة الوحدة مصير كل الأرواح العظيمة»، عليك أن تثق فى ذلك حتى إن كان صاحب هذه العبارة هو «شوبنهاور» الأكثر تشاؤما فى هذا الكوكب، ففى وحدتك متسع لتتذكر «ساسكيا» الجميلة التى تسللت من لوحات «بول روبنز» لتربت على قلبك الطيب.
أعرف يا «رامبرانت» أنه رغم قسوة مرض هذه الرقيقة، وقلبها المفطور على أطفالكما الثلاثة، لكنها حاولت كثيرا أن تبدو أمامك امرأة شابة، تعرف جيدا كيف تتقن الابتسام لتتدفع الحزن عن روحك الهشة كلما تذكرت «آلام المسيح»، عرفت كيف تمنحك الإرادة من حكاياتها عن «رحلة العائلة المقدسة».
أذكر يا رامبرانت نزهاتكما فوق «الجسر الحجري».. وضحكاتكما التى دوت فى الفضاء كلما شاهدتما «أولادًا يلعبون»، إلقاءكما السلام على «رجل عجوز جالس على مقعد» أظنه كان يفكر فى «إبراهيم وملاك الرب» أو «الثور المشرح»، هذا العجوز على ما أذكر كان أشبه بـ «فيلسوف فى حالة تأمل».
وبما أنه «لا يوجد ما هو أفظع وأكثر مدعاة للاكتئاب من الابتذال» كما قال تشيخوف، وبما أنه ليس ثَمّ ابتذال أكثر مما فعله «حراس الليل» بك، ورحيل «ساسكيا» عنك أيها الوديع فأنا أفهم جيدا أسباب وحدتك المشوبة بالألم، حتى «هندريكيه» خادمتك الطيبة التى لم تدخر جهدا لالتقاطك من كابوسك الطويل، فشلت فى إعادة الضوء إلى غرفتك المعتمة، وكأنك تثبت لها أن «كازانتزاكيس» كان محقا حينما قال: «إن الكلمات لا يمكنها أبدا أن تخفف عن ما فى قلب الإنسان وتريحه، الصمت وحده قادر على فعل ذلك».