السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أخلاقيات الزحمة «3-2»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ظاهرة نعايشها يوميًا جميعًا، وهذه الظاهرة تمثل اعتداءً على صحة الإنسان السليم، فما بالنا بالمرضى والأطفال وكبار السن؟!.. وأعنى بها «الضوضاء». 
«الضوضاء» ظاهرة يومية ملموسة يعانى منها الصغير والكبير والغنى والفقير، فالأصوات المزعجة تحيط بنا من كل جانب، وفضلًا عن أنها تمثل اعتداء على صحة الإنسان وحريته، فإنها تمثل أيضًا إعلانًا عن موت بعض القيم الرفيعة. وميلاد بعض القيم الهابطة، فمن الصور المألوفة فى حياتنا أن نجد راكب السيارة عندما يرغب فى استدعاء أحد الأشخاص، لا يصعد إليه ويطرق بابه، وإنما يستعمل آلة التنبيه «الكلاكس» فى أى ساعة من ساعات الليل أو النهار، حتى ينتبه صاحبه إلى وجوده ويطل من النافذة أو الشرفة، عندئذ فقط يكف عن استخدام هذه الآلة اللعينة. 
إن كل هم هذا الشخص هو الوصول إلى هدفه من أقصر طريق، حتى وإن كان أسوأ طريق، ومن المؤكد أن هذا المبدأ الميكافيللى، «الغاية تبرر الوسيلة»، إنما يؤكد سيطرة القيم الهابطة على سلوك هذا الشخص، لا فى هذا الموقف وحده، وإنما فى سائر علاقاته الاجتماعية الأخرى.
من المؤسف أن مبدأ «الغاية تبرر الوسيلة» أصبح هو المبدأ السائد بين قطاع كبير من الناس، وما دمنا نتحدث عن «الضوضاء»، فلنتأمل مشهد الباعة المتجولين وهم يطوفون الشوارع، إذ نراهم قد ابتدعوا وسيلة جديدة للإعلان عن بضاعتهم، وهذه الوسيلة هى استخدام مكبرات الصوت، ليس مهمًا إيقاظ النيام أو إزعاج المرضى، وإنما المهم الوصول إلى الهدف، وهو الترويج للبضاعة وبيعها وتحقيق مكسب من وراء ذلك.
أما إذا تحدثنا عن الضوضاء الصادرة عن السيارات المنطلقة فى شوارعنا أو الصادرة عن مكبرات الصوت المستخدمة فى الأفراح والمآتم والجوامع، أو المنبعثة من الورش والمقاهى وأجهزة الكاسيت، إذا تحدثنا عن كل هذا فسوف يطول بنا الحديث.
ومع هذا، فإننى أود أن أرصـد إحدى هذه الظـواهر التى لا يمكن أن نجد لها مثيلًا فى أى بلد آخر من بلاد العالم: ففى بلادنا، رغم استعمال سائقى السيارات لآلات التنبيه على نطاق واسع، نجد عددًا كبيرًا من المشاة لا يعيرون الأصوات الصادرة عنها أى التفات، يستعمل السائق آلة التنبيه كى يفسح له بعض المارة الطريق، غير أنهم -رغم سماعهم صوت هذه الآلة- يواصلون سيرهم بهدوء وسكينة معرقلين انطلاق حركة السيارة، ولا شك أن كل من قاد سيارة فى شوارع القاهرة صادفه موقف مشابه لهذا.
وقد يملأ الحنق والغيظ صدر بعض السائقين، ومنهم من ينفد صبره فينطلق لسانه بالسب والشتم عندما يصادف مثل هذا الموقف، ولكننا إذا أنعمنا النظر أدركنا أن الناس قد اكتسبوا ما يشبه «المناعة» ضد الأصوات الصادرة عن آلات التنبيه بسبب اعتياد آذانهم على هذه الأصوات طوال ساعات اليوم.
إن السائقين أنفسهم قد اكتسبوا بدورهم نوعًا مماثلًا من هذه «المناعة» ضد الأصوات الصادرة عن عربات الشرطة والإسعاف والمطافئ، ففى كل بلاد الدنيا يبادر السائق بإفساح الطريق لهذه العربات، أما عندنا فالأمر مختلف، إذ لا يعبأ السائقون بالأصوات الصادرة عن هذه العربات، لأننا اعتدنا سماع آلات التنبيه الخاصة بعربات الشرطة والإسعاف والمطافئ تدوى فى الشوارع لا بسبب وجود حالة طارئة «عاجلة»، وإنما لمجرد أن سائقها أو أحد أمناء الشرطة أو أحد الضباط ينتابه شعور بالتميز، ويرغب فى أن يسبق بقية السيارات الأخرى، فيُطْلِق آلة التنبيه الخاصة بهذا النوع من العربات، وبتكرار هذا السلوك غير المسئول اكتسب السائقون «مناعة» ضد الأصوات الصادرة عن عربات الشرطة والإسعاف والمطافئ. وترتب على هذا أنهم يتلكأون فى إفساح الطريق أمامها، حتى وإن كانت متجهة حقًا إلى إنقاذ إنسان. ومما ساهم فى ترسيخ هذا السلوك السلبى أن بعض أصحاب السيارات الخاصة باتوا يستخدمون آلات تنبيه مماثلة للآلة المستخدمة فى عربات الشرطة!! فى واقع الأمر، إن حديثنا قد انصب على ظاهرة انتشار الضوضاء لعدة أسباب:
أولًا: لأن الضوضاء تدخل ضمن التلوث السمعى الضار بصحة الإنسان. وهى تشكل خطرًا على صحة الإنسان السليم، فما بالنا بالمرضى والأطفال وكبار السن!! ومن ثم فهى تمثل اعتداء على صحة الإنسان وحريته.
ثانيًا: لأنها تكشف عن مظاهر الفوضى والاضطراب وعدم انضباط الشارع المصرى.
ثالثًا: السبب الأخير والأهم؛ لارتباطه بموضوع هذا المقال، إنما يتمثل فى أن انتشار الضوضاء، رغم وجود نص قانونى يُجرّم ذلك، مما يكشف عن غياب سلطة الدولة عن بعض مجالات حياتنا، وهذا الغياب سواء أكان عن إهمال أو قصد يُعَرِّض سلامة المجتمع كله للخطر، خاصةً إذا امتد هذا الغياب إلى مجالات أخرى كثيرة؛ ذلك لأن الدولة تمثل الشعب باعتبارها تنظيمًا قانونيًا، ومن ثم فهى رمز مختلف مظاهر المجتمع المنظم قانونيًا.
إننا ننظر إلى القانون بوصفه أداة لتوجيه النشاط الإنسانى ووضع القيود على هذا النشاط، وقد تبدو هذه الوجهة من النظر متناقضة مع الدعوة إلى حرية الإنسان، ولكننا نود أن نؤكد أن الحرية لا تعنى أن الإنسان يعيش فى جزيرة منعزلة فى حالة بدائية، متحررًا من كل قيد. إن الإنسان لم يكن أبدًا متوحشًا منعزلًا وحرًا بهذا الشكل، بل هو كائن اجتماعى يدخل فى علاقات كثيرة معقدة ومتشعبة مع غيره من أفراد مجتمعه، ومن ثمَّ فإن الضوابط أو القيود لا تعنى اعتداء على حريته، بل تمثل ضمانًا لهذه الحرية.
والسؤال الذى يفرض نفسه الآن، هو:
لماذا لا يتم تطبيق القانون الذى يقيد حرية استعمال مكبرات الصوت أو آلات التنبيه أو غيرهما من الوسائل والأدوات المثيرة للضوضاء؟! هل يا ترى يحتاج تطبيق مثل هذا القانون إلى عملة صعبة تعجز مواردنا الاقتصادية عن توفيرها؟!.