رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

التقدم الحضاري.. عربيًا وغربيًا «4»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
نتابع اليوم ما بدأناه من عرض لفكرة التقدم كما جسدتها الحضارة الغربية منذ اليونان وحتى عصورنا الحديثة.
اعتقد «سنيكا» Seneca (٣ B.C ـ 65 A.C) فى نظرية تدهور البشر أو فساده الميئوس منه، ورأى أن الحياة الإنسانية تتعرض دوريًا للدمار والحرائق والفيضانات والكوارث بالتناوب؛ وكل عصر تاريخى يبدأ بفترة ذهبية يحيا فيها الناس حياة بسيطة مطمئنة ثم يعقبها تدهور وانحدار، وتصبح الفنون والمخترعات عاملًا مساعدًا فى زيادة التدهور بما تهيئه من أسباب للترف والرذيلة.
أما «الفلسفة الأبيقورية» فقد رفضت فكرة العصر الذهبى وما يتبعه من تدهور، لأن هذا يتعارض تعارضًا واضحًا مع نظريتهم القائلة بأن العالم يتكون من ذرات (هذه الذرات غير مرئية وخالدة تختلف فى الحجم والوزن والشكل)، وذلك دون تدخل إلهى، فبدت لهم أحوال البشر الأولى مشابهة لأحوال الدواب؛ من هذه الحالة البدائية «التعسة» شقوا طريقهم حتى بلغوا حالة الحضارة القائمة.
من هذا المنطلق، خطت «الأبيقورية» خطوة مهمة نحو فكرة «التقدم» عندما استبعدت نظرية «التدهور» ـ من حيز تفكيرها ـ واعترفت بأن الحضارة من صنع سلسلة من الإنجازات المتلاحقة التى تحققت بفضل الإنسان وحده. لكنهم لم يذهبوا بعيدًا عن هذا الشأن، إذ تركزت نظراتهم على حالة الفرد فى الزمن الحاضر (هنا والآن) وخضعت دراستهم لتاريخ البشرية لهذا الاهتمام الشخصي؛ كما خضعت قيمة اعترافهم بالتقدم الإنسانى فى الماضى لإطار نظرتهم إلى الحياة.
ومن هنا يمكن القول، إن العقل اليونانى لم يهتد فى نظرته إلى فكرة «التقدم» ـ بمعناها الحديث ـ لأن تجربته التاريخية المحدودة لم تفض إلى هذه الفكرة، كذلك مسلمات فكره وتشككه فى قيمة التغير ـ بالإضافة إلى أفكاره عن مفهوم التدهور والدورات الحضارية ـ تعارضت أشد التعارض مع الرقى والتقدم.
وتهدف النظرية المسيحية ـ التى نادى بها آباء الكنيسة وبخاصة القديس «أوغسطين» Augustine (٣٥٤ – ٤٣٠) إلى أن حركة التاريخ كلها هى تأمين سعادة البشرية، وبناء على ذلك لم تسلم - هذه النظرية - بأى تقدم أبعد للتاريخ الإنسانى على الأرض. فقد ظن «أوغسطين» أن التاريخ سيصبح مكتملًا إذا انتهى أجل الإنسان على خير وجه؛ فلم يعد يعنيه وجود الارتباط بين أى تحسن تدريجى يطرأ على المجتمع أو ازدياد فى المعرفة، وبين الفترة الزمنية الباقية على يوم الحساب. 
ونجده فى كتابه «مدينة الله» يتحدث عن تاريخ الإنسانية الذى قسمه إلى: ملكوت الله وملكوت الشيطان، وهما فى صراع دائم، صراع الخير والشر. وأخذ تطور التاريخ ـ فى نظره ـ ينحو إلى الحسم النهائى فى هذا الصراع، وسينتهى بانتصار الخير؛ لأن الله قد سبق وحدد للتاريخ ذاك الحسم وهذا الانتصار. ومر هذا الصراع فى ست فترات إلى أن وصل عند «المسيح» ومعه بدأت الفترة الأخيرة التى ستنتهى بيوم القيامة حتى يفصل الأخيار عن الأشرار. 
وسيطر هذا التصور لتاريخ الإنسانية على الفكر المسيحى فى القرون اللاحقة، وحتى على كبار لاهوتيي وفلاسفة القرون الوسطى. 
ولا جدال فى أن «روجر بيكون» Roger Bacon (١٢١٤ ـ ١٢٩٤) يعُد من أهم المفكرين الذين جاهروا بفكرة «التقدم»، وأول من دعا إلى نهضة علمية حديثة، ورأى أنه للقيام بهذه النهضة لا بد من القضاء على الأسانيد وعدم الخضوع لرأى أية شخصية مهما كانت؛ ولا يتم الاعتراف إلا بما تأتى به المعرفة العقلية الصحيحة. 
وكانت لديه رؤية شاملة عن هذه المعرفة، وحاول تصنيف العلوم، فجعل الفلسفة الطبيعية على رأس هذه العلوم. 
ومن هنا تركزت غايته على إصلاح التعليم وإدخال دراسات ذات طابع علمى لمحاولة فهم بعض المسائل اللاهوتية. وذهب ـ فى كتابه «السر الأكبر» Opus Minus ـ إلى أن الفلسفة هى خطوة مهمة فى طلب الحكمة المسيحية التامة التى تتواجد فى الكتاب المقدس، وتظهر من خلال القانون الكنسي. وقد بنى مشروعه الإصلاحى على مبدأ الاتصال المتبادل بين فروع المعرفة ووحدة العلوم. 
لكن على الرغم من أفكاره المستنيرة، إلا أنه كان ابنًا لعصره فى جوانب عديدة. فلم يستطع التحرر من نظرة العصور الوسطى الشائعة عن الكون، ولم تختلف نظراته العامة لاتجاه التاريخ البشرى ـ اختلافًا ملموسًا ـ عن نظرة القديس «أوغسطين».
وهكذا يتضح لنا مدى استحالة ظهور فكرة «التقدم» فى العصور الوسطى، فقد كان للنظرات السائدة عن دور النعمة الإلهية والاعتقاد بنهاية العالم، أثر لم يختلف عن تأثير النظريات اليونانية عن طبيعة «التغير»، وتكرار عودة دورات العالم؛ أو بالأحرى كانت هذه الفكرة ذات أثر قوى، لأنها ليست نتائج مستخلصة من براهين عقلية، ولكنها عقائد دوجماطيقية تستند إلى سلطان الإله.
كما كانت النظرة المتشائمة عن مصير الإنسان أشد صرامة من تلك النظرة اليونانية، حيث كان هناك أمل إنسانى لبلوغ السعادة فى عالم آخر. غير أن أثر هذه الفكرة، التى ألهبت الخيال، بعدت الإنسان عن أن يبحث عن مصيره داخل العالم الأرضي. 
ومع بداية عصر النهضة الأوروبية كانت هناك إرهاصات لفكرة «التقدم» ظهرت من خلال النتائج الكبرى التى حققها العقل الإنسانى فى هذه المرحلة والتى تتلخص فى: استعادة العقل ثقته بنفسه بعد محاولة تحرره من سلطان الكنيسة ورجال الدين، وتمرده على قواعد الأخلاق الدينية المتفق عليها، ورفضه الفلسفة المدرسية التى جاء بها العصر الوسيط؛ كذلك اعترافه بالقيمة التى تتمتع بها الحياة على الأرض مستقلة عن أى أمانى ومخاوف مرتبطة بالحياة بعد الموت. 
واتبع رجال النهضة ـ فى تأملاتهم العامة ـ الكثير من نزعات الفلسفة اليونانية وعقائدها الجامدة. وعلى الرغم من تحقق بعض الكشوف الكبرى ذات الآثار الثورية فى هذا العصر، فإن أغلب المفكرين عكفوا على اكتشاف ما هو قديم والتوسع فيه، ونقده ومحاكاته. فقد ساهم أصحاب «النزعة الإنسانية»Humanism فى نشر مؤلفات الكتــَّاب القدامى، وبعث التراث الكلاسيكى فى البلاغة والأدب والنحو والفلسفة والتاريخ؛ فاهتموا بنشر كتابات المؤرخين الرومان مثل «تيتوس ليفيوس» Titus Livius (٥٩ B.C ـ ١٧ A.C) و«تاسيتوس» Tacitus(٥٥ ـ ١٢٠) لاستخلاص ما فيها من عبرة وقيم تربوية وتعليمية وأخلاقية، كذلك تاريخ «بلوتارك» Plutarch (٤٦ ـ ١٩٠) الذى يزخر بالشخصيات العظيمة مثل «الإسكندر» «وقيصر». 
ولم يبدأ التأمل فى البحث نحو نقطة انطلاق جديدة إلا فى السنوات الأخيرة من عصر النهضة. وجاء «فرنسيس بيكون» Bacon (١٥٦١ ـ ١٦٢٦) وشارك بأفكاره التقدمية مشاركة فعالة فى النهوض بالفكر العلمى فى بداية حقبة الفلسفة الحديثة، حيث انصب اهتمامه على الطبيعة العامة لهذا الفكر وعلاقته بالمسائل الفلسفية المتعلقة بالكون والإنسان؛ وكان له فضل فى التأثير الذى أحدثته النظرة العلمية فى سير التأمل الفلسفى ذاته.
واهتم «ديكارت» بالبحث فى المنهج وأثره فى العلوم وفى الحياة، وأقام تفرقته الدقيقة بين المعرفة العقلية القائمة على أسس رياضية وبين المعرفة التى تقوم على الخبرة البشرية، كما نجدها فى معرفة اللغات والتاريخ والجغرافيا؛ كما دعا إلى رفض كل سلطة تحاول أن تفرض نفسها على التفكير، ولا تقبل إلا حكم العقل الذى لا يرى للحقيقة معيارًا إلا معيار «البداهة والوضوح».
أما النزعة الشكية التى تأثرت بديكارت، فقد انصب اهتمامها على تفسير حركة التقدم التاريخى على معرفة ما تم فى الماضى وليس على أساس فروض ومبادئ تبين وجهته ومساره.
وبجانب الشكاك والنقاد نجد من آمن بالعلم والتقدم إيمانًا كبيرًا ـ ربما وصل إلى حد الجنون ـ مثل « فونتنل» الذى أعلن فى نهاية القرن السابع عشر أنه لا نهاية للتطور البشرى.