الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

سلامة موسى الحائر دومًا.. والديمقراطية "4"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ونواصل مع سلامة موسى إذ انتقل من التتلمذ على كتابات فولتير إلى التتلمذ على كتاب داروين. 
وقد أصدر داروين كتابه عن أصل الأنواع عام ١٨٥٩ وقد أثار بكتابه غبارا كثيفا ولم يزل. وقد تعرف سلامة على كتاب أصل الأنواع وهو لم يزل بعد طالبا فى المرحلة الثانوية، لكن هذا الفهم السطحى تعمق عبر قراءات متعددة المصادر خلال إقامته فى لندن، لكن الماكر الحذر سلامة موسى ما كان ليلقى نفسه بنفسه فى أتون الغليان الذى تموج به مصر فى تلك الأيام والذى هاجت فيه هجمات عديدة ضد الفكر المادى وكان النموذج المتوهج هو رد الفعل على كتاب شبلى شميل «فلسفة النشوء والارتقاء» وهو ترجمة لشرح مقالات بخنر على مذهب داروين، (مطبعة المقتطف ١٩١٠) حيث تعرض شبلى شميل لهجوم حاد، ولهذا أصدر كتابا قد يبدو بعيدا عن الموضوع هو «مقدمة السوبرمان» وهو يقدم فيه نظرية داروين فى إطار أحلامه بتطور الإنسان المعاصر.
ونقرأ فى كتابه حاول سلامة تبسيطها «الرقى الذى نلحظه فى كفاءات الحيوانات، إنما يتحقق لأنه يقوم بقتل الضعيف من صنفه أولا بأول، فلا يبقى غير الأقوى الذى ينسل نسلا قويا على غرارة» ويقول «والإنسان حيوان ولكنه يختلف عن الحيوانات الأخرى بأن نسله العاجز يعيش بينما فى الغابة نجد الغزال الأعرج يموت والأسد البطيء يهلك جوعا، ولكن الإنسان الأعرج يعيش بالصدقة.
وليس فى مقدورنا أن نعود بالإنسان إلى حالة توحش الطبيعة فى الغابة» وإنما (وهنا يقدم سلامة حلا لا يتذوقه المصريون ولا يقبلون به ويقف فى حلوقهم ليضفى على بعض أقواله غربة واغترابا). فيقول «وإنما نعرف أنه يمكن أن نقصر الزواج على الفئات السليمة فى الأمة، ونعرف أيضا أن أهم مخترعات القرن التاسع عشر هو التعقيم الاختياري». 
ويمكن القول إنه يحدث فى أيامنا الحالية أخذ محدود بفكرة الكشف السابق للزواج لضمان سلامة الإنجاب.
وفى كتابه «هؤلاء علموني» يقول «لقد تشبعت بنظرية داروين، فصارت مزاجى وأسلوب حياتى وكبرت قيمة الإنسان فى نفسى لأنى عرفت تاريخه الماضى من مئات الملايين من السنين، كما أننى أحس بتاريخه القادم فى المئات من السنين أيضا، وتحملت بهذه المعرفة التى أصبحت دينا فى عنقى ولم ينقص من قيمة هذا الدين أننى وقفت على مئات الخرافات التى وقع فيها الإنسان، بل إن هذه الخرافات قد زادتنى احتراما وحبا فى الإنسان أى هى كانت تمثل محاولاته المتكررة للوصول إلى الحقائق فقد انتقل الإنسان من السحر إلى العلم ومن التنجيم إلى علوم الفلك ومن الكهانة إلى الضمير ومن ذل الرق إلى شرف الإنتاج» (ص٩) لكن سلامة موسى كان يتأمل فتعانى أفكاره من شطحات يصعب تقبلها فيقول «والأخلاق يجب أن تكون حرة لأن حرية الأخلاق تدعو إلى انقراض الفاسد منها وبقاء الصالح، فليس من مصلحة الإنسان أن يعيش فى قفص من الواجبات الأخلاقية لأن من طبيعة الأخلاق الفاسدة أنها تقتل صاحبها فنترك السكير يسكر كما يشاء لأن إدمانه السكر سوف ينتهى بموته المبكر ولنترك النهِم فى الأكل يأكل ما يشاء فإن معدته سوف تسوقه إلى قبره».. وسلامة موسى ينجح فى كثير من الأحيان فى أن يدس أفكاره فى أية كتابة ففى «مقدمة السوبرمان» يكتب عن العلمانية وعن الاشتراكية وتقرأ «فالعلمانية نزعة أوربية تشمل جميع الأمم المتمدينة تقريبا، وعن هذه النزعة تأتى نزعات أخرى منها نزعة الاشتراكية وليس فى العالم قطر متمدين إلا وبه حركة اشتراكية قوية مصبوغة بصبغة الوسط الذى نشأت فيه، وكل الدلائل تدل على أن العالم يتجه نحو نظام اشتراكى إن لم يكن فى جميع صناعاته ففى نحو النصف أو الثلثين» (ص١٠) ويقول «ومما يساعد على رقى الأمة أن يجعل ناموس تنازع البقاء يجرى بلاد إجحاف بين الناس، ولا يكون ذلك إلا إذا استوت أمامهم الفرص بحيث لا يمتاز أحدهم عن الآخر إلا بسبب كفايته الذهنية أو الجسمية، فيجب أن يتساوى الناس فى فرصة الإثراء. 
وذلك باصطناع نظام اشتراكى أو شبه اشتراكى حتى لا يولد واحد غنى وآخر فقير، وقد يكون الغنى أحط ذهنا وجسما من الفقير، ولكن امتيازه بالمال الموروث يعينه على نسله فى الأمة بينما فقر الفقير يمنعه من الزواج (ص٦).
وهكذا فحتى خصوم سلامة موسى فى ذلك الزمان وقعوا فى حيرة من أمرهم فقد أدخل الدارونية إلى ساحة العلمانية والعلمانية إلى ساحة الاشتراكية ثم عاد عبر الاشتراكية إلى نظرية داروين. وإذ احتار خصومه من أين يمسكون به فقد جمعوا ذلك كله واتهموه بالإلحاد.. لكنه يفاجئهم بإعلانه «أن الدين ضرورى لكل أمة ولكل فرد. 
ولا يمكن أن يعيش الإنسان بلا دين. لأنه ما دام قد شرع يفكر فى الكون زمانا ومكانا فقد شرع يفكر فى الدين ومن ينظر إلى السماء فى ليلة صافية ويتأمل فى أبعاد النجوم لا بد وأن يؤمن بالدين» (ص٢١). 
ويمضى سلامة موسى حائرا ومهاجما وماكرا ومنتقلا من معركة إلى معركة دون توقف فهو يشن هجوما عنيفا على أدباء عصره «لأنهم خانوا الأمانة وجعلوا الأدب لعبة سخيفة ورياء كاذبا ومكرا سيئا فكانوا يمدحون «السلطان» عبدالحميد فى الوقت الذى كنا ننتظر منهم أن يعلنوا استبداده وكانت تنشر له دواوين لحمتها وسداها مدح عظماء المال والجاه». (مختارات سلامة موسي). ثم هو يشهر سبابته فى وجه الرأسماليين ونظامهم قائلا: «وكما زالت سلطة الأشراف فى أواخر القرون الوسطى فكذلك ستزول سلطة أصحاب رؤوس الأموال فى هذا القرن.. ومن يعش ير». ( مختارات سلامة موسى – ص٨٠).
.. وقد مضى القرن، ثم سبعة عشر عاما من قرن آخر ولم نر. أم قل إنه حالم حائر.. ونواصل.