تعرضت بريطانيا خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة لستة أعمال إرهابية، من بينها عملان إرهابيان فى مناطق حيوية فى العاصمة البريطانية لندن، حيث تم شن إحدى هذه الهجمات خارج مبنى البرلمان وتركزت الهجمة الثانية على جسر لندن التاريخى الشهير، كما تعرضت مدينة مانشستر لتفجيرات إرهابية بعد انتهاء حفل غنائى حضره أكثر من ٢١ ألف شخص معظمهم من صغار السن والأطفال. وخلفت هذه الاعتداءات ٣٩ قتيلًا و٢١٤ جريحًا.
وبذلك يكون عام ٢٠١٧ هو أسوأ أعوام الاعتداءات الإرهابية فى لندن منذ صيف عام ٢٠٠٥ الذى سجل أسوأ هجمات إرهابية تعرضت لها بريطانيا فى تاريخها. وقد عاشت العاصمة البريطانية لندن مساء السبت ٤ يونيو الماضى ليلة رعب غير مسبوقة، حيث وقعت عدة حوادث متتالية خلال زمن لا يتجاوز ٦٠ دقيقة، بدأت بحادثي دهس على جسر لندن، أسفرت عن سقوط عدد من القتلى والمصابين، وعقب ذلك وقع حادث طعن بأحد المطاعم البريطانية قرب الجسر ذاته، أعقبه حادث إطلاق نار فى الوقت الذى كانت تتعامل فيه الشرطة مع حادث آخر وسط لندن.
وبينما أعلن تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) مسئوليته عن هجمات ٢٠١٧، فإن تنظيم «القاعدة» هو المسئول عن هجمات يوليو ٢٠٠٥. وقد توعد التنظيم فى بياناته عن الهجمات بشن مزيد من الهجمات ضد بريطانيا فى الداخل وضد مصالحها فى الخارج، وهو ما يعتبر تحديًا لاستراتيجية مكافحة الإرهاب فى بريطانيا التى كانت تقودها وزيرة الداخلية تيريزا ماى رئيسة الحكومة الحالية. كذلك فإن خطورة هذا التحدى تزداد بالنظر إلى أن منفذى الهجمات الإرهابية فى بريطانيا، سواء تلك التى وقعت عام ٢٠٠٥ أو التى وقعت ٢٠١٧ هم من المواطنين البريطانيين المسلمين، المولودين فى بريطانيا أو الحاصلين على جنسيتها من أصول إسلامية أو عربية.
وقد أدت الهجمات الإرهابية الأخيرة إلى دعوة رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماى لاجتماع أمنى طارئ صباح اليوم التالى، للوقوف على آخر مجريات الوضع، علاوة على التعامل مع هذه الهجمات على أنها هجمات إرهابية، خاصةً بعد ما أفادت صحيفة «ديلى ميل» البريطانية، نقلًا عن شهود عيان أن العناصر الإرهابية التى قامت بطعن ودهس المواطنين على جسر لندن، وجهت صرخات أثناء عملية القتل «من أجل الله» For the Sake of God.
ولكن ثمة أسئلة تطرحها العمليات الإرهابية الأخيرة فى بريطانيا، ولعل أهمها لماذا بريطانيا الآن؟ ولماذا العاصمة البريطانية لندن؟، وهل لجماعة الإخوان الإرهابية دور فى هذه العمليات أم أن داعش هو الذي وراءها فقط؟، وهل هذه العمليات منظمة أم عشوائية من بضعة ذئاب منفردة؟.. كل هذه الأسئلة مهمة لفهم العمليات الإرهابية الأخيرة.
وربما تكمن الإجابة الأولى عن هذه التساؤلات فى أن العمليات الإرهابية الأخيرة التى شهدتها لندن مخططة وبعناية شديدة، وإلا ما هذا التزامن بين ثلاث عمليات فى توقيت واحد لم يتجاوز الستين دقيقة. كما أن أساليب الطعن والدهس وجز الرؤوس هى من صميم أساليب التوحش لدى تنظيم «داعش»، والذى وجد نفسه مؤخرًا محاصرًا فى العراق وسوريا، فكان لزامًا عليه فتح جبهات جديدة لتشتيت جهود الحرب عليه فى المناطق التى يسيطر عليها، ووجد ضالته فى بريطانيا تحديدًا لأكثر من سبب.
وأول هذه الأسباب أن بريطانيا يوجد بها أكثر من ثلاثة ملايين مسلم يمثلون ٥٪ من تعداد السكان، وبالتالى فهذا يعد مجالًا خصبًا لعمل المتطرفين والإرهابيين وسط الجاليات الإسلامية التى تشعر بالتهميش أو تؤمن وتتبنى الأفكار المتطرفة التى تُلقى على أسماعهم من شيوخ التطرف المسيطرين على المساجد والمراكز الإسلامية فى بريطانيا. ومن هنا صار التنافس فى بريطانيا بين فصيليْن أساسييْن أحدهما السلفية الوهابية التى أسس بعض الشيوخ الذين يسيطرون على العديد من المراكز الإسلامية بحكم التمويل والإمكانات المادية، والثانى هو السلفية الجهادية ممن يعتنقون أفكار تنظيمْ القاعدة وداعش من خلال بعض شيوخ التطرف أو من خلال شبكات التواصل الاجتماعى أو من خلال استلهام العمليات التى تقوم بها داعش فى الدول الأوربية الأخرى مثل فرنسا وبلجيكا. ولعل مثل هذه المعطيات هى التى دعت تنظيم «داعش» إلى التأكيد مجددًا على أن عملياته ستطول أوروبا وبريطانيا فى الفترة المقبلة.
وهذا لا يمنع من فتح تنظيم «داعش» جبهات أخرى لخلخلة أنظمة الحكم والسيطرة على أراضٍٍ جديدة يقيم عليها دولته الإسلامية المزعومة، كما عمل على ذلك منذ فترة فى سيناء وليبيا، وكما حدث مؤخرًا فى الفلبين التى تخوض صراعًا شرسًا مع عناصر التنظيم. ولا يمكن استبعاد الولايات المتحدة الأمريكية من هذا المخطط، ولعل ذلك ما دعا الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى اتخاذ إجراء وقائى بعد هجمات لندن الأخيرة بعدم دخول بعض العناصر الإسلامية إلى الأراضى الأمريكية، وخاصة أن هجمات لندن جاءت عقب قمة الرياض التى عُقدت فى الأساس لمكافحة الإرهاب.
ونأتى للتساؤل الأهم: ما دخل جماعة الإخوان الإرهابية بهجمات لندن الأخيرة؟، لعل الإجابة عن هذا التساؤل تتمثل فى انتهاء شهر العسل الأنجلو ـ إخوانى الذى استمر طوال الفترة التالية لثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣، والتى كان تنظيم الإخوان يلقى فيه كل الدعم السياسى من البريطانيين وأربابهم الأمريكان فى عهد باراك أوباما، يكفى استضافة مجلس العموم البريطانى لرموز التنظيم الدولى للإخوان، وتقديمهم على أنهم نموذج يُحتذى فى الإسلام المعتدل. ويبدو أن شهر العسل ذهب دون رجعة، بعدما تغيرت الخريطة السياسية الأمريكية بتولى ترامب رئاسة الولايات المتحدة واتخاذه مواقف مختلفة من جماعة الإخوان وسير البريطانيين على النهج الأمريكى كالعادة، وهو ما أَشْعَرَ جماعة الإخوان المتواجدة بقوة فى بريطانيا بالتوجس، وخاصةً بعدما تواترت التقارير بأن ثمة موقفًا حاسمًا قد يُتخذ قريبًا ضدها فى الولايات المتحدة وبريطانيا بتصنيفها جماعةً إرهابية. وهذا ما يوضح سر العمليات الإرهابية الأخيرة التى صُممت ونُفذت لكى تكون قوية ومؤثرة ومتعددة الاتجاهات ومتزامنة فى التوقيت وتثير أكبر درجة من الهلع والرعب، ولم تكن جماعة الإخوان بعيدةً عن كل هذا، بل تم هذا تحت سمعها وبصرها وتخطيطها مع تلامذتها من تنظيم داعش، بحيث تُثنى البريطانيين عن المُضى فى خططهم بتصنيف الجماعة على أنها إرهابية، بما يُفقدها أهم الملاذات الآمنة فى القارة الأوروبية. وفى الوقت نفسه، تجبر البريطانيين سواء فى الحكومة أو الأمن الداخلى أو الاستخبارات بالاستعانة بالجماعة لتهدئة الأوضاع مع هؤلاء الإرهابيين المتطرفين الذين ينتمون لتنظيم داعش بوصفهم رمزًا للإسلام المعتدل، وهو الدور الذى تلعبه الجماعة مع البريطانيين منذ عقود. إن لدغات داعش والإخوان نالت، وسوف تنال من بريطانيا فى عُقر دارها طالما فكرت بريطانيا فى اتخاذ أى إجراء ضد جماعة الإخوان الإرهابية يحد من حرية حركتها أو يعمل على تصنيفها أو يحرمها من ملاذٍ آمن يضم ٣٠٠ ألف متطرف من بنى جلدتها وفقًا لإحصاء أعلنته السيدة تيريزا ماى عقب الهجمات الأخيرة.
لقد احتضنت بريطانيا الأفاعى والحيات فى عقر دارها طوال العقود الأربعة الماضية، وفتحت لهم أبوابها ومنحتهم جنسيتها وجواز سفرها، ووفرت لهم ملاذًا آمنًا ودعمًا سياسيًا غير مسبوق. والآن تشكو بريطانيا من لدغات الأفاعى والحيات الذين أوهموها بأنهم يلتفون حول جسدها من قبيل الحب والحنان، وليس من قبيل اللدغات ثم الالتهام.