إذا كنا فى حاجة ماسة إلى نشر الوعى السياسى لحماية البلاد من أى أخطار خارجية أو دسائس داخلية، فإن نشر الوعى الديني، وتنمية الوعى العلمى لا يقلان عنه أهمية، وهناك مشهد نعايشه معايشة يومية يجسد التخلف «الفكري» على المستويين العلمى والديني، هذا التخلف الفكرى يمارسه الجاهل والمثقف، المتعلم والأمي، الحاصل على أعلى المؤهلات العلمية ويمارسه أيضًا من حُرِمَ من أى قسط من التعليم.. جميعهم يؤمنون بـ«الحسـد» إلا من رحم ربى!!
الحسد هو تمنى زوال نعمة الله من يد الغير، والإنسان الذى يملأ الحسد قلبه إنسان شرير، لا يتمنى خيرًا للناس، بل يحترق حقدًا وتعتصره الحسرة إذا ما رأى الناس تنعم بالسعادة، لذلك يأمرنا المولى جل شأنه أن نستعيذ به من الحسَّاد، يقول تعالى: «وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ» [الفلق:٥].
والواقع أن الحاسد لا يحسد من هو أقل منه منزلةً، لأن الإنسان الصحيح البدن لا يحسد العليل، والغنى لا يحسد الفقير، والعالِم لا يحسد الجاهل، بل العكس هو الذى يحدث.
ومن الواضح أن الحسد هو ضعف إيمان وعدم رضا بقضاء الله وقدره، ونحن مطالبون بأن نرضى بقضاء الله، كما أننا مطالبون بأن نحمده على كل ما يحدث لنا، ونشكره على كل نعمة نملكها أو يملكها غيرنا، وألا نحزن على نعمة فاتنا الحصول عليها، لأنه قد يكون فى حصولنا عليها شر أبعده الله عنا، يقول سبحانه وتعالى: «وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» [البقرة: ٢١٦].
هذا ما يأمرنا به القرآن الكريم، ومع ذلك نجد أغلب الناس فى بلادنا -منهم مثقفون وعلماء وحملة دكتوراه- يؤمنون إيمانًا راسخًا «بالعين»، وأنها «تفلق الحجر»، ويلجأون إلى التمائم والتعاويذ والأحجبة، كما يلجأون إلى أشياء أخرى عجيبة وغريبة كالاستعانة بخرزة زرقاء أو حدوة حصان أو إطلاق البخور أو غير ذلك، اعتقادًا منهم بأن مثل هذه الأشياء تحميهم من «عين الحسود»!!
وإذا ما حاولت مناقشة أحدهم، بادرك بالقول: «الحسد مذكور فى القرآن»، إن أمثال هؤلاء ينقصهم الفهم الصحيح للآية الكريمة، فالمولى تبارك وتعالى يأمرنا أن نستعيذ به من شر الحسَّاد، لأن الحاسد لا يتورع عن القيام بعمل إيجابى يضر بالمحسود ويؤذيه، كأن يطلق عليه لسانه بالنقد والتجريح وتشويه السمعة، أو يمشى بالوقيعة بينه وبين الناس، أو يعتدى عليه مباشرة، أو عن طريق وسطاء، كل هذه الشرور والأضرار إنما تصدر عن الحاسد بحكم طبيعته غير السوية ونفسيته المريضة، لذلك ينبغى أن نستعيذ بالله من شر هؤلاء الحسَّاد.
غير أن القرآن الكريم لم يذكر أن هناك أشعة غير مرئية تنبعث من «عين الحسود» يمكنها أن تصيب المحسود -سواء أكان شيئًا أم شخصًا- بالأذى الشديد، كما أن العلم لم يقل أن عين الحاسد لها تركيبة خاصة ووظيفة مختلفة عن بقية العيون البشرية الأخرى.
وفضلًا عن ذلك، فإن القول بأن الحاسد لديه قدرة خاصة على فعل كذا وكذا بعباد الله هو نوع من الشرك يحذرنا الدين منه، لأن الفعل فى الكون كله لله وحده، فلا يوجد فعّال لما يريد سوى الحق جل جلاله، كما أن الاستعانة بالتمائم لحمايتنا من «عين الحسود»، هى نوع من الوثنية جاء الإسلام لمحاربتها والقضاء عليها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الاعتقاد بأن عين الحاسد هى العلة أو السبب فيما يصيبنا من أذى، قد يصرفنا عن البحث عن العلل والأسباب الحقيقية لما نعانى منه، فإذا اعتقدت الأم أن المرض الذى أصاب طفلها سببه الحسد، فإن هذا الاعتقاد سوف يصرفها عن الذهاب إلى الطبيب ويدفعها إلى الاستعانة بأشياء عقيمة كالتمائم والتعاويذ والأحجبة.
إن القول بأن عين الحاسد تصيب المحسود بالأذى هو قول ينفيه واقع الحياة اليومية، إذ إن الحياة تزخر بالمبدعين البارزين من البشر فى مجالات النشاط الإنسانى المختلفة، ولا شك أن كل واحد من هؤلاء هو عرضة للحسد من قبل بعض الفاشلين العاجزين، وما أكثرهم!! فلو أن العين تفلق الحجر، كما يعتقد أغلب الناس، لكان وجود هؤلاء الفاشلين كفيلًا بالقضـاء على كل المبدعين الناجحين!! وهذا ما لم يحدث لحسن الحظ، إن وجود الناجحين والمتفوقين فى كل مجالات الحياة دليل قاطع على بطلان السائد بين الناس فى وجود الحسد.
بقى أن نقول إنه لو أن «عين الحسود» لها هذا التأثير المزعوم لكان الأجدر بنا الاستعانة بتأثيرها من أجل خدمة بعض الأهداف الاجتماعية والوطنية، فمثلًا كان يمكننا بدلًا من إنفاق المال وبذل الجهد لرفع مستوى أداء فريقنا القومى لكرة القدم، كان يمكننا بدلًا من هذا الاكتفاء بالإعلان من خلال الصحف وشاشات التليفزيون عن حاجتنا إلى عدد من الحاسدين المشهود لهم بنفاذ حسدهم!! وعند قيام أى مباراة لنا مع فريق منافس، يجلس هؤلاء الحاسدون بالقرب من الملعب، ويصوبون عيونهم على كل لاعب متميز من لاعبى الفريق الخصم حتى إذا ما تجاسر واقترب من مرمانا يصاب بشلل فجائى أو ذبحة صدرية تقضى عليه فى الحال، وبذلك نفوز فى كل المسابقات من دون تعب أو عناء!!
وفى يقينى أننا أشد ما نكون احتياجًا إلى الفهم الصحيح لآيات القرآن الكريم كى يتعمق وعينا الديني، لأن الإسلام هو دين العقل والحرية، ومن دون العقل والحرية لن يتحقق رقى أو ازدهار.