الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الأبيض والأسود في التأمين الصحي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كان الزحام على أشده فى عز نهار رمضان، وفى جو تصاعدت فيه درجة الحرارة لدرجة شبه قاتلة.. امرأة تحمل طفلها وتحاول السير سريعًا، لتأخذ مكانها فى طابور طويل، وأخرى تضع طفلها على صدرها وتجرجر طفلًا آخر فى يدها اليمنى، بينما يمسك طفلها الثالث فى طرف ثوبها، وآخرون من الرجال المسنين يتكئ أحدهم على كتف ابنه، ويسير آخر مستندًا إلى عكازه.. ووسط ذلك كله، يحاول البعض أن يمر من بين تلك الكتل البشرية للوصول إلى الجانب الآخر.
لم يكن هذا المشهد تزاحمًا على سيارة من سيارات وزارة التموين لبيع السلع الاستهلاكية، أو لإنقاذ مصاب «خبطته» سيارة مجنونة فى سرعتها، أو للفرجة على خناقة لا قدر الله.. بل كان فى قلب مبنى كبير، بجوار مبنى محافظة الجيزة، يضم أكثر من خمسة طوابق، تعلوه لافتة «عيادة الهرم الشاملة للتأمين الصحى»، وكان منظر كبار السن مأساويًا وهم يعافرون سيرًا نحو الصيدلية لصرف العلاج اللازم، وهالنى زحام النساء بأطفالهن، ولما تساءلت، جاءنى الرد بأن كل هؤلاء جئن لاستكمال أوراق بطاقات التأمين الصحى لأطفالهن.. جئن من الصف والحوامدية والبدرشين ومن قرى وبلاد بعيدة، لإنهاء إجراء كان يمكن التسهيل على الناس وتوفير هذه الخدمة المهمة فى كل عيادات وفروع التأمين المنتشرة فى كل مكان، ولكن ليه نريح الناس طالما ممكن نتعبهم؟ ويظل السؤال: هل يعلم بذلك العذاب الدكتور على حجازى رئيس الهيئة العامة للتأمين الصحى؟
وبالمناسبة، هل يعلم أن هناك دواء أساسيا لمرضى السكر، ويعالج التهاب الأعصاب المصاحب لهذا المرض، كما يعالج التهاب الأعصاب البصرى، والتهابات الأعصاب المتعددة، واسمه «ثيوتكس فورت»، توقف صرفه نهائيًا، ولم يعد ضمن أدوية التأمين، حسبما قال طبيب الأمراض العصبية لمرضاه، وماذا يفعل المريض نفسه، بعد أن عز عليه الحصول على دواء اسمه «أميتريبتيلين هيدروكلوريد»، فإذا كتبه الطبيب يدوخ المريض السبع دوخات، «رايح جاى»، ولا تسمع من الصيدلى سوى عبارة «لسه ماجاش»؟
لنتفق جميعًا على أن التأمين الصحى صمام أمان للملايين من المصريين، ولا يشعر بقيمته إلا من يعانون من الأمراض المزمنة أو الذين يحتاجون لإجراء عملية جراحية، رغم كل مشكلاته المزمنة، والتى تجعلنا نتساءل: متى ينصلح حاله؟ ومتى يكون جاهزًا بكل الإمكانيات والاحتياجات، وقد اقتربنا من المحطات النهائية لمشروع قانون التأمين الصحى الذى يهم كل البشر على أرض مصر، خصوصا المرضى منهم الذين يحدوهم أمل كبير بالوصول إلى بر الأمان، والشعور بالاطمئنان والتيقن من ضمان الجودة فى العلاج بكل مراحله المختلفة.
مشروع القانون «رايح جاى» من أيام لجنة سياسات جمال مبارك، التى أعدت قانونًا لفظه المجتمع، عبر معارضة موضوعية استندت إلى الحقائق والبراهين، وكانت لها وقفة «رجل واحد» فى مواجهة مؤامرة استهدفت آنذاك تفريغ التأمين الصحى من مضمونه والقضاء على فلسفته الأساسية القائمة على مبدأ «التكافل الاجتماعى»، وظلت ثابتة على موقفها حتى أصدر القضاء الإدارى حكمه التاريخى آنذاك برفض قانون جمال مبارك ولجنته الميمونة.
وحسب ما هو معلن، فإن المشروع الجديد يخضع حاليًا للمراجعة فى مجلس الدولة، وكان لنقابة الأطباء ملاحظات أرسلتها للمجلس، منها تحفظها على بند المساهمات كشرط لتلقى العلاج.
وبصراحة شديدة، فإن بند مساهمة المريض فى تكلفة علاجه، تمثل نقطة سوداء فى مشروع القانون.. فالمريض قد يحتاج إلى إجراء أشعة وتحاليل تصل تكلفتها إلى مبلغ وقدره، وعلى المريض أن يسدد نسبة من هذه التكلفة، فإذا سألت: لماذا لم تأخذ اللجنة بالنظام البريطانى، حيث المريض هناك لا يسدد إلا اشتراكه الشهرى، سواء كان لوردًا من اللوردات أو حارسًا لعقار من العقارات؟.. يأتيك الرد: من الصعب أن نطبق النظام البريطانى، لأن النظام الضريبى عندهم مستقر تمامًا، أما عندنا فهو مشوه وغير مكتمل، حسبما قال الدكتور علاء غنام، عضو لجنة إعداد القانون، وهو واحد من أهم الخبراء فى هذا المجال، وله دراسات وبحوث عديدة، وأتفق معه فى اقتراحه بتشكيل مجلس أعلى للصحة، بشكل جديد لقيادة المنظومة استراتيجيًا، وأشاركه أيضًا تخوفاته حول المصاعب المتوقعة أمام هذا القانون الحاكم. 
ومع كل التقدير للدكتور علاء.. هل مكتوب على المواطن فى مصر أن يتحمل أوزار الحكومات المتعاقية؟ وهل لأن الحكومة لا تريد إجراء إصلاح ضريبى شامل وكامل ويسد كل الثغرات، «نيجى» على دماغ المواطن ونحمله ما لا يحتمل؟.. وهل المسألة مرتبطة بالدراسة «الاكتوارية» التى تناقشها اللجنة مع ممثلى وزارة المالية؟.. لو كان الأمر كذلك فقل على الدنيا السلام، فالمالية تعطى الأولوية للشفط من جيوب الناس، ولو تركنا لها الحبل على الغارب فقد تطلب زيادة نسبة «المساهمات»، خصوصا فى ظل وجود بعض نواب وزير المالية، ممن لا يدركون قيمة البعد الاجتماعى، ولا يملكون أى حس سياسى، وكانوا سببًا فى توترات كثيرة شهدها المجتمع، وما زالوا يكابرون ويصرون على ما فى دماغهم مهما كانت تداعياته وأخطاره على الغالبية من الناس.. ارحمونا من الذين لا يدركون قيمة البشر ولا يفهمون أن المصريين هم ثروة مصر الحقيقية.. وسلامًا على الصابرين.