ندفع نقودًا.. لنشترى أمراضًا.. ثم ندفع ثانيةً لنُـعَالج من تلك الأمراض إذا قُـدَّر لنا البقاء على قيد الحياة!!.. نقتطع من قوتنا وقوت أولادنا لنشترى أمراضًا.. هذا العبث يحدث فى بر مصر.. هذا العبث الذى يفوق كل تصور يحدث فى مصر «أم الدنيا».. نشترى فاكهة وخضراوات ومواد غذائية أخرى بباهظ الأثمان.. وبعد الأكل تنتابنا أعراض مرضية مفاجئة !! إسهال وآلام فى البطن وقىء وارتفاع فى درجة الحرارة.. فنسارع إلى عيادات الأطباء وإلى المستشفيات.. ندفع أجر الأطباء والمستشفيات للتخلص من الآثار القاتلة للغذاء الذى اشتريناه «بدم قلبنا».. هذا العبث الذى يتجاوز حدود العقل والمنطق، مرجعه غياب المراقبة والمحاسبة وإعمال القانون وتطبيقه على المتاجرين بقوت الشعب المصرى، سواء من حيث ضبط الأسعار أو صلاحية السلع الغذائية للاستهلاك الآدمى.. هذا التهاون والتخاذل من جانب المسئولين عن إدارة شئون البلاد، إنما يتم تحت دعاوى زائفة ترددت مرارًا وتكرارًا على مسامعنا طوال العقود السابقة:
• «علينا أن نحرص على جذب مزيد من الاستثمارات»
• «يجب تشجيع الرأسمالية الوطنية»
• «رأس المال جبان» ومن ثمّ لا بد أن نوفر له جميع الضمانات التى تجعله مطمئن القلب مرتاح البال.. لا داعى للضغط عليه، وبالتالى يجب أن نترك له الحبل على الغارب، وهذا ما يحدث بالفعل.
ووصل الأمر إلى حد استيراد بذور وأسمدة ومبيدات إسرائيلية مسرطنة على يد وزير تولى مسئولية وزارة الزراعة أكثر من عشرين سنة فى الفترة السابقة على يناير ٢٠١١. والآن وبعد أن نجح المصريون فى خلع مبارك وإزاحة مرسى عن السلطة بإجماع شعبى كبير، ظننت خطأً أن الحال قد تغير وتبدل، وأن المسئولين فى بلادنا حريصون على صحة المواطنين، وأنهم سيضربون بيدٍ من حديد على كل من يتلاعب بقوت الشعب، ويبدو أن هذا كان مجرد وهم لأن زواج السلطة مع رأس المال الذى كان قائمًا طوال فترة حكم حسنى مبارك ما زال وثيق العرى؛ بل قد يكون أشد تماسكًا الآن.. وهذا يفسر لنا لماذا نعانى من التخلف الثقافى والتدهور الاجتماعى والتأزم الاقتصادى نفسه الذى كان يعترى مجتمعنا قبل يناير ٢٠١١.
المستثمرون المتحالفون مع رجال السلطة داخل الحكومة وداخل البرلمان بعضهم يجمع بين صفته كمستثمر وصفته كأحد رجالات السلطة التنفيذية.. أو قد يجمع بين صفته كمستثمر وبين عضويته للبرلمان، ومن ثم يطرح فى الأسواق كمستثمر مواد غذائية وغيرها تؤذى صحة المواطنين وهو فى مأمن من المحاسبة والعقاب.
بعض المسئولين، وبعض النواب (ونحن لا نعمم) فى الوقت الذى يستثمرون أموالهم فى الاتجار بمواد غذائية تضر بصحة الشعب، يأتيهم غذاؤهم من بعض دول أوروبا، فرنسا أو غيرها وعلى متن طائرات خاصة.. أو يأكلون مما يصدرونه من مواد غذائية للخارج سواء لدول الغرب أو دول الخليج، لأن فارقا كبيرا فى المواصفات بين ما يُطرح فى السوق المحلية داخل مصر من مواد غذائية وخضر وفاكهة وسمك ولحوم ودواجن، وما يتم تصديره من هذه السلع إلى الخارج، لأن الحيتان الكبار لو أنهم وأولادهم كانوا يضطرون للأكل مما يأكل منه الشعب المصرى، وأصابهم هم وأولادهم ما أصاب المصريين من أمراض، ما اِجْتَرَأوا على إغراق السوق بهذه السلع الضارة!!
بسبب التقدم العلمى الهائل فى مجال الهندسة الوراثية، وهو ما تحدثنا عنه فى مقالات سابقة، ظهر تقدم كبير فى مجال الزراعة، أدى إلى استحداث سلالات جديدة ذات مواصفات أفضل، غير أن الساعين للربح السريع، استغلوا العلم أسوأ استغلال، فاستخدموا الهرمونات فى الزراعة بطريقة تضر بصحة الإنسان.. فالمعروف أن الكائنات الحية ومن ضمنها النبات تحتوى على هرمونات تساعدها على النمو بطريقة طبيعية، ونجح العلم فى نهاية النصف الثانى من القرن الماضى فى استخدام الهرمونات وتصنيعها لزيادة نمو النبات على نحو يفوق الطبيعة، فالثمرة تكون أكبر أو عددها أكثر، إلى آخر هذه الميزات التى أتاحها العلم أمام الإنسان. المشكلة تكمن فى جشع الإنسان ورغبته فى الكسب السريع دون الوقوف عند سقف معين مما يدفعه إلى استخدام الهرمونات فى الزراعة وتربية الدواجن والمواشى بشكل مكثف وزائد علي الحد المسموح به دوليًا.. الأمر الذى أدى إلى الإضرار بصحة المستهلك مما نتج عنه إصابته بأمراض خطيرة يأتى على رأسها «السرطان».
إن المستثمرين المصريين فى مجال الفاكهة والخضراوات حين يصدرون منتجاتهم إلى دول الخليج وإلى الدول الأوروبية لا تحدث مشكلة!!.. رغم أن تلك الدول التى تستورد منهم الفاكهة والخضراوات، تفحص ما تستورده فحصًا دقيقًا.. السبب فى هذا الاختلاف يكمن فى أن ما يتم تصديره إلى الخارج أفضل كثيرًا مما يتم تسويقه فى السوق المحلية.. أى أن الفاكهة التى يعتزمون تصديرها يلتزمون فى زراعتها بكل المعايير الدولية من حيث أنواع الأسمدة والهرمونات ومواعيدها ومقاديرها وفقًا للشروط والمحددات الدولية.. أما ما تتم زراعته والنية مبيتة على أن المصريين فى الداخل هم الذين سيأكلونه، فلا بأس من مخالفة كل الأعراف والقوانين من أجل الحصول على الربح السريع، وليذهب المواطن إلى الجحيم.
بقى أن نتساءل: أين الجهات الرقابية فى وزارتى الزراعة والصحة؟
أين الإحصاءات عن عدد من أصيبوا بالأمراض الناجمة عن السلع الغذائية الملوثة بالأسمدة والمبيدات والهرمونات سواء أكانت فاكهة أو خضراوات أو غيرها؟ كم مصريًا فارق الحياة جراء ذلك؟ كم تاجرًا أو مستثمرًا أو مسئولًا حكوميًا تمت محاسبته عما سببه من أمراض أو حالات وفاة لمواطنين مصريين؟
نتساءل عن محاسبة المسئولين عن التسمم الناتج بسبب الأسمدة الضارة للفواكه والخضراوات، والتى تسبب أمراضًا للمواطنين، فى الوقت الذى لا نعلم فيه شيئًا عن محاسبة أولئك المسئولين عن تسمم أطفالنا من جراء تناول الوجبات الغذائية السامة فى مدارسنا!!
أين السادة أعضاء مجلس النواب من هذه المأساة؟! أولئك الذين تنتفخ أوداجهم غضبًا إذا وجه أحد لهم نقدًا.. مع أن هذا حق لأى مواطن عليهم؟
إن السبب الأساسى لهذا العبث الذى يفوق كل تصور، والذى يحدث فى مصر «أم الدنيا» هو الاستهانة بكرامة الإنسان المصرى، الناجمة عن غياب المراقبة والمحاسبة!!