هل تذكر عزيزى القارئ ماذا قال فرح أنطون عندما جادله نقولا فى أن يخفف من حدة هجومه على الاحتلال البريطانى وإلا فإن دار المندوب السامى البريطانى سوف تغلق كل جريدة يرأس تحريرها.. وكيف رفض فرح ذلك وصمم على مسيرته حتى لو صادروا كل جريدة يصدرها، وسأله نقولا وماذا تفعل؟
لقد رد أنطون على نقولا قائلا: «نكتب كتبا وروايات عن واق الواق والشعب ذكى يفهم»، وبعد دوره طويلا وكتابات مشحونة بكنوز الفكر الاشتراكى وبعد كتابات فيها كثير جدا من الشجاعة والصواب وقليل جدا من الخطأ، لجأ نقولا حداد إلى حركة التفاف جديدة وبدأ فى كتابة روايات.
والمثير للدهشة أنه ما أن بدأ كتابة الروايات حتى انهمرت كسيل جارف عديد من روايات ذات مستوى أدبى رفيع وتستحق بالفعل أن تتوج كأعمال أدبية شديدة الرقى.
وقد قلت إنها كثيرة جدًا منها كمثال ثورة عواطف- زغلولات مصر نبيه لبنان- جمعية إخوان العهد- فرعون العرب عند الترك- المقدسي- حواء الجديدة- ثورة فى جهنم- آدم الجديد- الصديق المجهول- دولة نساء- حركات السيدات فى الانتخابات... وغيرها كثير.. وليأذن لى القارئ أن أختار من بينها واحدة كمثال.. ونختار مثلا رواية «حركات السيدات فى الانتخابات أو أى هو ابنى» (المطبعة العربية ١٩٢٧) والرواية محاولة لتجسيد الصراع بين الأرستقراطية القديمة التى تعتمد على العز والجاه والحسب والنسب، والبرجوازية الناهضة، والتى كونت ثروات كبيرة تصورت أنها يمكنها أن تشترى بها أى شيء ومن خلال سيناريو درامى محبوك ينتقد الحداد النظام الانتخابى البرلمانى، ويوضح كيف أن الثروة هى السبيل الأساسى للحصول على مقعد فى البرلمان، وباختصار؛ فإن نقولا الحداد ومن خلال تسلسل أحداث روايته وتصويره المتقن لعالمها وشخوصها يهتك أمامنا أستار الأرستقراطية والفساد والعفن الذى يلوث كل تصرفاتها.
والحدث الرئيسى للرواية يدور حول الكارثة التى تعرضت لها زينب هانم حرم بكر باشا العيوقى، عندما يتقدم حليم أفندى لخطبة ابنتها حكمت. فحليم أفندى هو ابن الشيخ أحمد الزعرورى، الذى كان خولى زراعة الباشا وسرق من أمواله ما مكنه من أن يصبح ثريًا، وأن يشترى أراضى وتكون له تجارة مربحة، والزعرورى لا يرى عيبا فى أن يخطب حكمت لابنه حليم، فحليم أفندى مؤدب ومتربى ومتعلم ومعاه دبلوم زراعة ويفهم فى كل شيء، وسوف يخترع علاجا لدودة القطن. وزينب هانم هائجة فماذا حدث للدنيا ابن الخولى يتجوز بنت الباشا؟ وتصرخ فى وجه الزعرورى «مين أنتم يا أغبيا حتى يأتى إلى بالكم أن تتزوجوا بنات الذوات، فهل وصل الأمر أن عبيدنا يريدون مصاهرتنا.. أن مجرد فتح هذا الموضوع إهانة لكرامتنا».
لكن الزعرورى ممثل البرجوازية الصاعدة لا يقبل هذا الرفض ويعتبره إهانة لسلطانه المتمثل فى ثروته؛ فيصرخ فى وجه زينب هانم «أنا لا أسمح برفضك لابنى وأعتبره إهانة لى؛ فبماذا تمتاز حكمت على حليم؟ ومرة أخرى تصرخ الهانم «أنت لسه مش فاهم الفرق العظيم بيننا وبينكم.. هل سمعت فى حياتك أن ابن الخولى تزوج بنت الباشا».. لكن الزعرورى يجادل: «هذا كلام جدى وجدك ونحن الآن فى زمن الحرية والإخاء والمساواة والإنسان بفعله لا بأهله، حكمت متعلمة وحليم متعلم أكثر منها، حكمت غنية وحليم أغنى منها، حكمت بنت باشا وأنا سأجعل حليم باشا» (ص٨٢).
وأخيرًا يلجأ الشيخ الزعرورى إلى التهديد قائلا: «وأنا سأصبح عضوا فى البرلمان. وتصيح زينب هانم أنت يا غبى عايز تدخل البرلمان؟»، فيقول: «سأصبح عضوا فى البرلمان، وسأحصل على البكوية وبعد ذلك الباشوية. وإذا رغبت أنت أن أتزوجك فسأرفضك، أما حليم فسوف يتزوج حكمت وأنت ستكونين حماته الطائعة شئت أم أبيت؛ لأن حليم سيصبح وزيرًا للزراعة ثم رئيسا للوزراء؟»، ويمضى الحوار طويلا ليجسد صراعا طبقيا من الطراز الأول.. والتحول إلى كتابة الروايات يصبح طريقا حتميا؛ فزيوار باشا يتسيد والليبراليون يتشتتون والاشتراكيون والشيوعيون يسجنون ولا سبيل سوى حركة التفاف.. والشعب ذكى يفهم.
ونقولا لا يتوقف لكن كتابة الروايات على جودتها وإتقانها توخزه وتؤلمه وتسأله كيف صار بك الحال إلى هذا؟ فيلجأ إلى مقالات عدة بعيدة عن السياسة تماما، وينشر فى «المقتطف» وغيرها مقالات معقدة وذات موضوعات معقدة فى الرياضيات العليا ونظرية النسبية وحول نظرية عن علاقة التواصل بين الزمان والمكان ويسميها «الزمكان»، ومقالات أخرى عدة نكتفى بإيراد عناوينها، ومنها: معنى الجاذبية- الأبعاد الأربعة- معنى الحيز- الوقت- فى النسبية. نسبية الوقت، هل تعتقد أن الدقيقة تكون فى مكان أطول منها فى مكان آخر؟ وحتى أسلوبه فى هذه المقالات كان شديد التعقيد، ربما لأن حصيلته منها لا تمكنه من التبسيط وكأنما أراد نقولا حداد ذلك معلنا احتجاجه على عقبات تمنع مواصلته المقالات وكتبه الأخرى، ثم كانت هناك كتب أخرى بعيدة عن السياسة مثل «الحب والزواج»، وقد قال عنه حداد فى أحد الإعلانات عنه «هو كتاب فريد فى بابه» يفسر فيه الحب تفسيرا علميا فلسفيا، ويعلل فيه مقاييس الجمال، ثم يشرح علائق الرجل والمرأة فى دولة الحب، وفصل طويل عن الزواج وما يحققه وأحواله، وكتاب آخر عنوانه «ذكر وأنثى خلقتهم، أو مرشد الشبيبة»، ويقول الإعلان الخاص به «فيه بحث فلسفى عن الذكورة والأنوثة، وبيان أن المرأة والرجل إنسان واحد كل منهما نصف هذا الإنسان، وهو يؤكد فيه أن الزواج الشرعى الوسيلة الوحيدة لنشأة الأسرة السعيدة.
وبعد فترة من صمت طويل، وعندما لجأت أمريكا لقصف اليابان بالقنابل الذرية، وعندما بدأ سباق نووى رهيب عاد نقولا من خبيئة صمته وكتب عن الطاقة النووية كتابا مهمًا (عالم الذرة والطاقة الذرية والقنبلة الذرية. مطابع المقتطف والمقطم عام ١٩٤٨).. هاجم فيه التسلح النووى قائلا فى مقدمة الكتاب «الإنسان يركب متن الطاقة الذرية ولكن شيطان أهوائه يمتطيه.. هو يحطم الذرة وأخيرا هى ستحطمه، فإما أن يعتقل الذرة أو لينتحر بها» (ص٣).. ثم هو يختتم هاتفا: «لا فلتحى الذرة وليجئ اليورانيوم فربما اتحدت الشعوب والأمم خوفا من حرب نووية» (ص٨١).
وأخيرًا وبعد رحلة طويلة رحل نقولا حداد.. تاركا هذا الميراث الرائع من كتابات أعتقد أننا لم نزل بحاجة إلى مطالعتها.
الآن وقد آن لى أن أختتم؛ فإننى أعتذر لنقولا حداد؛ لأننى تتبعت بعضا مما اعتقدت أنه أخطأه.. لكنها كحبات ملح سرعان ما تختفى بين أمواج نهر النيل العذب.. الصافى..