الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

اتفاقية «الجشع المتبادل»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الارتفاع فى الأسعار يفوق كل تصور، فضلًا عن أنه يتجاوز طاقة التحمل، وهو نتيجة لا شك لأخطاء، بل قل خطايا عقود سابقة من الحكم، غاب فيها التخطيط العلمى من أجل تنمية المجتمع على جميع الأصعدة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، مما ألقى بنا إلى قاع العالَم «إذا كان للعالم قاع» فى حين ظهرت أمم مثل ماليزيا وسنغافورة وغيرهما، وأصبحت عملاقة وصعدت إلى السطح، إن هذا الأمر كان يقتضى محاسبة من أوصل بلادنا إلى هذا الدرك الأسفل، محاسبة سياسية، بدلًا من تلك المحاسبات الجنائية الهزيلة عن امتلاك غير مشروع لفيلا هنا أو قصر هناك، ومن ثم أصبحوا أحرارًا طلقاء الآن، وظللنا نحن نعانى من آثار ما ارتكبوه فى حق هذا الوطن من ظلم !. 
صحيح علينا أن نعلق الجرس فى رقبة المسئولين عن إدارة شئون البلاد السابقين، والحاليين أيضًا، فيما يتعلق بتأزم الوضع الاقتصادى وارتفاع الأسعار، لكن هذا ليس معناه أننا – كمواطنين – أبرياء براءة تامة من مسئولية ما حدث، أو أننا لسنا مسئولين ولو بدرجة من الدرجات عما جرى، وما زال يجرى لبلادنا من نكبات اقتصادية!.
واقع الحال يقول نحن جميعًا مسئولين، لا استثنى أحدًا.. إننا كأفراد فى مجتمع نجحنا فى توقيع اتفاقية غير معلنة يمكننا أن نطلق عليها اسم «اتفاقية الجشع المتبادل»، والواقع أن غالبية الناس فى مجتمعنا يقومون بتنفيذ بنود هذه الاتفاقية بهمة وإصرار، رغم سخطهم المعلن عن سوء الحال واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان.
الكل يعانى من ارتفاع الأسعار، ولا شك أن هناك أزمة اقتصادية أدت إلى هذا الوضع بالغ السوء، ولكننى أعتقد أن الأزمة الاقتصادية ليست المتهم الوحيد فى هذه القضية، إذ أن هناك متهما آخر لا يقل خطورة، وهو «الجشع»، وهنا يبرز سؤال: جشع مَنْ ؟!
للإجابة عن هذا السؤال، لا بد من تناول مثال من واقع حياتنا اليومية لتوضيح ما نعنيه «بالجشع المتبادل»، ولنتحدث عن سلعة واحدة ولتكن «اللحوم»، فمن المعلوم أن الجميع يعانى من ارتفاع سعر هذه السلعة، وصحيح أن الأزمة الاقتصادية هى أحد أسباب ارتفاع سعر اللحوم، ولكن يظل من الصحيح أيضًا أن هناك سببًا أهم لارتفاع سعر هذه السلعة، وهو «جشع» الجزارين، وإذا نظرنا إلى مستهلكى «اللحوم» سنجد أنهم فئة كبيرة: منهم سائق التاكسى والمدرس والميكانيكى والطبيب والفاكهانى والسباك.. وغيرهم، إن هذه الفئات المختلفة عندما تستشعر «جشع» الجزار تصاب هى الأخرى بهذا الداء، فنجد كل فئة من هذه الفئات تمارس الجشع على بقية الفئات الأخرى، إذ يحاول سائق التاكسى الحصول من الراكب على أكثر من حقه، كما يقوم المدرس بإعطاء دروس خصوصية، والطبيب والميكانيكى والسباك يغالى كل واحد منهم فى أجره.. وهكذا.
إذا تأملنا هذا الوضع، نجد أن هناك جشعًا متبادلًا، فالجزار وسائق التاكسى والطبيب والسباك، يحاول كل منهم «بالجشع» الحصول على كل ما فى جيب المدرس من نقود!! ماذا يفعل المدرس فى هذه الحالة؟ إنه يحاول عن طريق «الجشع» أيضًا أن يسترد ما فقده من مال بالحصول على أكثر مما يستحق، فيقوم بإعطاء دروس خصوصية للتلاميذ والطلاب، وقد يكون من بينهم ابن الجزار أو سائق التاكسى أو السباك أو الطبيب، وما يصدق على المدرس يصدق على بقية الفئات، كل إنسان فى مجتمعنا يحاول أن يدافع عن نفسه ضد الجشع، وذلك باسترداد ما فقده من مال، فيجد فى نهاية الأمر أنه هو نفسه يقوم بفعل «الجشع»، الكل جناة وضحايا، غير أن هناك فئة صغار الموظفين لا يستطيعون ممارسة الجشع حتى لو شاءوا، وذلك لأنهم لا يملكون أى وسيلة تمكنهم من ممارسة الجشع، وهؤلاء هم المعذبون فى الأرض، إلا من استطاع منهم - من خلال التعامل مع الجمهور - الحصول على بعض الرشاوى، ولا شك أن «الجشع» أنواع، ويتحدد حجم الجشع من حيث الضخامة والضآلة وفقًا لدرجة نفوذ صاحبه وما يملكه من مال وسلطة.
ولو أردنا معرفة خطورة هذا الوضع المؤلم، فلنتخيل أن كل فرد فى المجتمع تخلى عن جشعه، وامتلأ قلبه بالرحمة نحو غيره من أبناء وطنه. من المؤكـد أن جـزءًا كبيرًا من العبء الذى يثقل كاهل الجميع سوف يزول، ومع هذا يحق للمرء أن يتساءل: إذا بدأت أنا بالتخلى عن الجشع، فمن يضمن لى أن بقية أفراد المجتمع سوف يلتزمون هم أيضًا بالتخلى عن الجشع؟!
فى واقع الأمر، إن مثل هذا التساؤل يكشف عن عدم جدوى الحل الأخلاقى لمشكلة الجشع الاجتماعى التى نعانى منها، ومن ثم يتحتم أن يتدخل طرف ثالث لديه الصلاحيات والقدرات التى تمكنه من البطش بكل جَشِعٍ مستغل، لا بد من تدخل ذلك الطرف الثالث كى يحطم تلك «الحلقة الجهنمية» التى ندور بداخلها جميعا.. نصرخ.. ونصرخ، نعرف أننا ضحاياها وننسى أنها من صنعنا، إن الطرف الذى يمكنه تحطيم دائرة الجشع المتبادل هو الحكومة.. الحل إذن فى يد الحكومة، فهل يا ترى سيطول انتظارنا لهذا الحل؟!.