من أعظم نعم الله على عباده أن فتح لهم باب التوبة والإنابة، وجعل لهم فيه ملاذًا أمينًا، وملجأً حصينًا، يلجه المذنب، معترفًا بذنبه، مؤملًا فى ربه، نادمًا على فعله، ليجد فى قربه من ربه ما يزيل عنه وحشة الذنب، وينير له ظلام القلب، وتتحول حياته من شقاء المعصية وشؤمها، إلى نور الطاعة وبركتها.
وشهر رمضان من أعظم مواسم التوبة والمغفرة وتكفير السيئات، ففى الحديث الذى رواه مسلم عن أبى هريرة -رضى الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر».
كما أن رمضان فرصة للعبد للتوبة والتقرب إلى الله؛ لأنه يجد فيه من العون ما لا يجده فى غيره، ففرص الطاعة متوافرة، والقلوب على ربها مقبلة، وأبواب الجنة مفتحة، وأبواب النار مغلقة، ودواعى الشر مضيقة، والشياطين مصفدة، وكل ذلك مما يعين على التوبة والرجوع إلى الله.
ومنزلة التوبة هى أول المنازل وأوسطها وآخرها، لا يفارقها العبد ولا ينفك عنها حتى الممات، وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل بها واستصحبها معه، فهى بداية العبد ونهايته، ولذا خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه، وأمرهم أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم وجهادهم، وعلق الفلاح بها، فقال سبحانه: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون}.
ويروى أنه لحق بنى إسرائيل قحط على عهد موسى -عليه السلام- فاجتمع الناس إليه، فقالوا: يا كليم الله ادع لنا ربك أن يسقينا الغيث، فقام معهم وخرجوا إلى الصحراء وهم سبعون ألفًا أو يزيدون.
فقال موسى -عليه السلام: إلهى اسقنا غيثك، وانشر علينا رحمتك، وارحمنا بالأطفال الرضع والبهائم الرتع والمشايخ الركع، فما زادت السماء إلا تقشعًا والشمس إلا حرارة.
فأوحى الله إلى موسى أن من بينهم عبد يبارز الله منذ أربعين سنة بالمعاصى، فناد فى الناس حتى يخرج من بين أظهركم فبه منعتكم.
فقال موسى: إلهى وسيدى أنا عبد ضعيف وصوتى ضعيف فأين يبلغ وهم سبعون ألفًا أو يزيدون؟
فأوحى الله إليه منك النداء ومنى البلاغ، فقام مناديًا، وقال: يا أيها العبد العاصى الذى يبارز الله منذ أربعين سنة، اخرج من بين أظهرنا فبك منعنا المطر.
فنظر العبد العاصى ذات اليمين وذات الشمال فلم ير أحدًا خرج فعلم أنه المطلوب، فقال فى نفسه: إن أنا خرجت من بين هذا الخلق افتضحت على رءوس بنى إسرائيل، وإن قعدت معهم منعوا لأجلى فأدخل رأسه فى ثيابه نادمًا على فعاله، وقال: إلهى وسيدى عصيتك أربعين سنة، وأمهلتنى وقد أتيتك طائعًا، فاقبلنى، فلم يستتم الكلام حتى ارتفعت سحابة بيضاء فأمطرت كأفواه القرب.
فقال موسى: إلهى وسيدى بماذا سقيتنا وما خرج من بين أظهرنا أحد؟
فقال الله: يا موسى سقيتكم بالذى به منعتكم.
فقال موسى: إلهى أرنى هذا العبد الطائع، فقال: يا موسى إنى لم أفضحه وهو يعصينى «أأفضحه وهو يطيعني»؟!
إن أجمل الكلمات، وأحسن العبارات، لدى رب الأرض والسموات، قول العبد: يا رب أذنبت، يا رب أسأت، يا رب أخطأت، فيكون الجواب منه سبحانه: عبدى قد غفرت وسامحت، وسترت وصفحت.