نمضى قدما محاولين استكمال دراسة كتابات نقولا حداد. ومن جديد نحاول أن ندرس معه علما جديدا على قراء العربية، وهو ما سمّاه «علم أدب النفس»، أو علم الأخلاق، وهى ترجمة لكلمة Ethics الإنجليزية.
وفيه يحاول نقولا محاولة جديدة تماما لتقديم تفسير علمى وتقدمى للانفعالات والسلوك والإرادة والجمال والضمير والفضائل والرذائل والحقوق والحرية. وكل هذه الموضوعات كان يمر عليها الإنسان العربى دون أن يتوقف ليتفهمها تفهما علميا، وكما اعتاد نقولا فى كتاب «علم الاجتماع» يضعها فى إطار تقدمى. فهو مثلا يتحدث عن «الضمير» قائلا: «إن الضمير ليس إلا قوة العقل إذا أضيفت إليه قوة الإرادة الآمرة بفعل الصواب والحق والسعى نحو الحقيقة، وعلى الإنسان أن يضع القوانين بحيث تقترب من المثل الأعلى فى الشرائع، بحيث تكون التشريعات ميزانًا للحق وإقامة العدل بين أفراد المجتمع على قدم المساواة، فالضمير عندما تعرض عليه أي قضية يقوم بإقامة هذا الميزان؛ فحيث يجد التشريعات منصفة بين الأفراد ولا تميز شخصًا عن آخر أجازها وأمر باتباعها، وإذا وجدها ظالمة تتحيز ضد البعض أمر بعصيانها (نقولا حداد- علم أدب النفس- الناشر محمد حلمى صاحب المكتبة العصرية فى بغداد- الطبعة الأولي- ١٩٢٨- ص٤). ويتحدث نقولا عن المطامع أو الشهوات قائلًا إنها على أربعة أنواع «المال- الجاه- السلطة- الشهرة». ويتحدث عن المال قائلًا: «فالمال أو الثروة على اختلاف صورها أو أنواعها هى قوة عظمى؛ لأنها حاصل عمل العمال، فما تحصل دينار أو متاع أو أى ثمرة إنتاج إلا وكان نتيجة لقوة العمل، ولكنّ النظام الحالى الإفرادى أو الفردى، لا يعطى لأى عامل الفرصة فى أن يتمتع بكل حاصل عمله، بل هو يتيح الفرصة لذوى القوة والطامعين أن يختلسوا من حاصل عمل العمال ويستأثروا بها، ويستغلوها ليتمتعوا وحدهم بها، لذلك نرى الناس فريقين.. فريق يعمل ويكدح وفريق يستغل عمل غيره وهكذا أثرى المليونير وافتقر العامل» (ص٢٦).
ثم يتحدث عن أوضاع المجتمع؛ فيقول: «نظام المجتمع الجيد أو العادل هو ما جعل حياة جميع أعضائه المشتركة سائرة فى طريق النجاح قدر الإمكان، وأما إذا كان نظامه غير عادل؛ فهو ما أتاح لعدد قليل من أعضائه أن يستعبدوا جانبًا أكبر من أعضائه» (ص١٧٢).
وهو يواصل إدانته للاستغلال، عندما يتحدث عن حق الاسترزاق (أى حق العمل والحصول على الرزق)، وقد كان هذا الحق غامضًا فى قديم الزمان، وهو غير مستحق فى أيامنا الحاضرة؛ لأن الرزق كان ولا يزال إلى اليوم محل صراع بين الأفراد والأمم، ولما احتدم هذا الصراع فى ظل تقدم الصناعة وتطور الآلات والتطور المالى، صارت وسائل الكسب نفسها محل نزاع بين الأفراد»، وصار المستثمر مالكًا لزمام التوظيف (الاسترزاق)، لذلك فإن صرخة أصحاب الدعاوى الاشتراكية تعلو حول حقوق الاسترزاق، أى أن يصبح هذا الحق مكفولًا لكل فرد، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا إذا أدارت الحكومة جميع هذه الأعمال وأن توزعها بمعايير العدل، وهذا هو النظام الاشتراكى بعينه، ولذلك يعتبر هذا الحق ضائعًا ما دام النظام الفردى مستفحلا.. وهكذا يعود نقولا حداد مستقيمًا على صراط الاشتراكية القويم.. ثم يتحدث عن الحرية «مؤكدا أنها شاهد على إنسانية الإنسان» (١٥١).. ثم يتحدث عن عنوان جديد هو «المثل الأعلي»، مؤكدًا أن «أعلى مراحل الإنسانية هو أن تكون أهداف الإنسان هى أهداف اجتماعية (أى لصالح المجتمع ككل)، وليست ذاتية حيوانية»، ثم هو يغرس قيمة إنسانية فى تربة الوطن ويقول: «فشخصية الإنسان قائمة بأن يهب ذاته لفعل الخير للآخرين، فهو فى سعيه نحو تحقيق الخير للآخرين إنما يسعى لتحقيق الخير لنفسه؛ أما إذا سعى لتحقيق الخير لنفسه فقط يكون منتحرا، وبالعكس؛ فإنه عندما يبذل نفسه فى سبيل مصلحة الجمهور يجد نفسه» (ص١٧).. إنها أخلاقيات جديدة يبشر بها نقولا حداد، وهى أخلاقيات لا تقوم فى المجتمع الرأسمالى، وإنما هى أخلاق اشتراكية لا بد لها أن تنشأ فى ظل مجتمع اشتراكي. أرأيت عزيزى القارئ، كيف عاد نقولا حداد إلى الهجوم على الرأسمالية فى جذرها الأخلاقى. وبعد ذلك يشن نقولا حداد هجومًا عنيفًا على الاستعمار، ويقول: «فتستبيح دول أوروبا الآن استثمار بلاد الشرق وشمال إفريقيا، واستغلال شعوبها وهى تقيم الحق بين أفراد شعوبها، ولكنها لا تقيمه بينها وبين أمم الشرق، بل تعتمد على القوة فى تحديد حدود ما تراه حقا لهم. فإذا حدث صدام بين حق إنجلترا وحق مصر مثلا، كان حق إنجلترا عند الإنجليز مقدما؛ لأن عند إنجلترا أسطولا يأخذ أى حق عنوة، ولكن إذا حدث مثلا هذا الصدام بين إنجلترا وأستراليا أو كندا لا يتقدم الأسطول، بل يتولى قضاء إنجلترا أو المستعمرات الفصل فى الحق على قاعدة الحق» (ص٣٩)، ثم يتواصل نقولا حداد مع موضوع مهم هو قضية الحق والسلام، فيقول: «إن العالم الإنسانى لا يضمن استقرار السلام فى ربوعه ويستتب أمن مجتمعاته ما لم تلتزم البشرية بالمبدأ الإنسانى العالمى، وهو أن حق البقاء والحياة والتمتع، حق لكل أمة من أمم الأرض، وهذا يستلزم أن يتعدل النظام العالمى كله على قاعدة الديمقراطية الدولية. فإذا ما استتبت الديمقراطيتان الاقتصادية والدولية فى العالم الإنسانى اقترب العالم إلى المثل الأعلى كثيرًا» (ص٤). وهكذا فإن استقرار السلام العالمى يعنى فى قاموس نقولا حداد تطبيق النظام الاشتراكى، واحترام حقوق الأمم فى البقاء والحياة والتمتع. ثم يقول: «لا يجوز للدول المتمدنة التى تشبعت بالروح الأدبية، أن تفرط بحياة أفرادها فى الحروب؛ فلا تثير حربا لأى سبب سوى الدفاع عن سلامة المجموع إن تعرض للخطر، فكل حرب سببها المطامع الاستعمارية هى بلا شك جريمة لا تغتفر؛ لأنها تفريط بحق مقدس، وهو حق الحياة، ولو اعترفت كل الأمم بذلك لكان معناه أن كل حرب هى على الإطلاق جريمة» (ص١٨١).
وإذا كنا سننتهى من الكتابة السياسية والاجتماعية والاقتصادية لنقولا حداد؛ فإن من واجبنا أن نقف احترامًا لمثقف حاول تقديم أفكاره الاشتراكية بشجاعة فى أحوال كثيرة وبتردد فى أحوال أخرى. لكنه بلا جدال واحد من أعلى هامات المجتمع المصرى، ومن أكثر مثقفيه وعيًا ومعرفة وتقدمية.. وكل هذا يغفر له ما لاحظناه فى فترات صعبة من تاريخ مصر من تردد أحيانًا أو أخطاء هو برغمها.. يبقى شامخا فى ساحة الفكر المصرى. ولم نزل نجد ضرورة كى نواصل.