ساقتنى صدفة إلى زيارة بلدة ريفية لا تبتعد كثيرا عن القاهرة، ولكن هذه الزيارة أثرت فى تأثيرًا بالغًا، فقد وجدت أن ما نردده عن شيوع مظاهر الانكفاء على الذات تقتصر على أهل المدن، وليس لها أى أثر فى الأرياف، وأن دعوات المطالبة بالمساواة وحقوق المرأة والقضايا التى تملأ الإعلام، وهم يعبث بعقولنا ويرسخ داخلها مفاهيم ليس لها وجود على أرض الواقع فى القرى الطيبة التى تمتلئ بها مصر، فقد وجدت التعامل بين الرجال والنساء وكأنهم إخوة، فى الحنان والتكافل والتعاطف، سمعت من أفواه السيدات الكبار ما أذهلنى من الحكم والأقوال التى تلخص كتب علماء.. ومن الحكم التى أعجبتنى «أنفاس معدودة فى أماكن محدودة» عن تواجدنا فى مكان معين برضانا أو رغمًا عنا، كذلك أدهشنى نداء السيدات للشباب والأولاد بكلمة «يا ولدى» والبنات نداؤهن «يا بنايتى» وكأن الابنة الفتاة «بناية العمر»، لما حظيت به من إعداد وتأهيل لتحمل مسئولية احتواء الأسرة فى المستقبل، السيدات والرجال أبناء وأمهات لجميع الأبناء، والنساء شقائق الرجال بحق، تآلف بلا حدود، أما حكمة استمتاع السيدات بالجلوس كثيرًا على الأرض، فهى حالة عشق للأرض وترابها تلخص فى كلمات بسيطة «إحنا جينا منها وراجعين لها.. هى الراحة» وممتلكاتهم من الأرض كالشرف والعرض لا تنازل عنها ولكن يحرصون على أن تتكاثر وتتزايد.. شعرت بدفء العائلات وتكاملهم متشاركين فى الأفراح والأحزان، يكملون احتياجات بعضهم من داخل بيوتهم بكل بساطة وارتياح.. سمعت الكثير فى الاقتصاد والتجارة والسياسة والعلاقات الاجتماعية، كلمات مملوءة بساطة وحكمة وإقناعًا، ومن المستغرب أن هؤلاء النسوة أغلبهن لا يقرأن ولا يكتبن، وأنجبن وربين علماء وأطباء ورجالًا أبطالًا فى قواتنا المسلحة ووزارة الداخلية وسيدات محترمات فى جميع مجالات العمل.. فرغم نظرة البعض للنساء الريفيات على أنهن أميات إلا أنهن عالمات بالفطرة، فقد وجدتنى أعقد مقارنة بينهن وبين أخريات فى المدن والحضر يتمتعن بالمراكز المرموقة، وحاصلات على أعلى الدرجات العلمية، ومثلهم رجال أيضًا ونطلق عليهم النخب، نجد امتلاء جلساتهن بالكلام عن الأبراج وقراءة الكف أو الفنجان، حتى بداية التعارف بينهن تبدأ بسؤال عن البرج وصفاته ومدى توافقه أو تنافره، وتكون الأبراج سببًا فى التقارب أو التباعد، كذلك الحكى عن الأسحار والأعمال والخرافات، أو النميمة فى حق الغائبين عن جلستهن، أو الحوارات المتنافرة والآراء المتضاربة والصراعات الزائفة، أو استعراض بطولات وهمية لأصحاب سلطة وجاه، والآخرون يستمعون كالفئران المذعورة خوفًا من إبداء رأى أو نظرة تغضب، المقارنة قاسية لذلك فعلينا مراجعة بعض السلوكيات السلبية التى أبعدت مجتمعنا عن فطرته السليمة، والتى ما زالت راسخة فى العائلات العريقة، علينا أن نعود إلى عاداتنا وتقاليدنا التى تساعد على تلاحم المجتمع وترابطه وألا ننساق إلى سلبيات العولمة التى تبهرنا بأضوائها، وتسلبنا حقنا فى الحياة الاجتماعية الدافئة.. وأن نبتعد عن حالة الإدمان التى أصابتنا بالتوحد، نتيجة الجلوس المنفرد بالساعات أمام أجهزة الكمبيوتر أو الموبايل والتى أصبحت مثيرة للسخرية، فلا نجد مكانًا تجتمع فيه الأسرة أو العائلة أو حتى الأصدقاء إلا وتجد كل الأفراد عيونهم شاردة داخل الموبايلات لعمل التواصل الاجتماعى المزعوم، ويا لها من تسمية تتناقض مع الحقيقة، فهى شبكات تواصل زائفة، تفرق المجتمعين على أمل التواصل مع المتفرقين. علينا أن ننظر داخلنا ونعاود إحياء عاداتنا فى الحرص على الترابط الأسرى، وهى مسئولية المرأة المصرية الصامدة الواعية صاحبة الإرادة المذهلة إذا استشعرت خطورة ما نحياه، فهى التى تربى النشء وعليها أن تعلمهم الحرية المسئولة، وأن تنظر إلى المستجدات التى فرضتها علينا الظروف الاجتماعية والسياسية لمنطقتنا العربية، وأن تحرص على تنمية الأمن الفكرى للأسرة نواة المجتمع وإعلاء قيمة القيام بالواجب، كذلك محاربة العادات السلبية وترسيخ العادات والتقاليد البناءة بصورة حضارية توائم العصر، حتى لا تتزعزع الثوابت التى تميز أمتنا وتنمى قوة مجتمعنا وقدرته.. وقوة وقدرة المجتمع المصرى تكمن فى سيداته فهن الرواسى الشامخات اللاتى يحافظن على أرضه الخيرة بماضيها العريق وحاضرها المشتاق للعلم والعمل البناء ومستقبلها المشرق بالأمل فى زوال السنين العجاف واستقبال أعوام الرخاء والتقدم والأمن والأمان.
rasha_ysz@yahoo.com