أدخل في الموضوع بشكل مباشر، وأقول إن مقاطعة التصويت على مشروع الدستور الجديد لمصر، هي خدمة جليلة يقدمها دعاة المقاطعة لمصلحة جماعة الإخوان المحظورة وأعوانها، خصوم ثورتنا المجيدة في 30 يونيو، وأقول أيضاً إن هؤلاء المقاطعين لم يتعلموا درس نتائج معركة انتخابات الرئاسة "مرسي/ شفيق"، عندما عصروا الليمون، واهمين أن غسل أيديهم عند المعارك الفاصلة سوف يحمي شرفهم الثوري، ولذلك أجد أنه من الواجب علينا التنبيه - بكل قوة - على ضرورة المشاركة الكثيفة في الاستفتاء على "دستور مصر" الرائع في مجمله، وأن نلفت النظر إلى الـ 90 في المئة الملآن في كوب الدستور، تكلموا عنها واحشدوا لها، ولكي تصبح التهنئة بالانتصار ذات قيمة ومعنى، لنتحرك منذ الآن بشكل منظّم، داعيين إلى التصويت بـ "نعم"، وأن تكون البداية من البيت والشارع الذي نسكن فيه ومقر العمل، أقول هذه البديهيات لأنني على ثقة من أن خصومنا - في الظلام - يرتّبون أمراً ما، والواجب والمسؤولية يفرضان علينا ألاّ نسمح لهم بإفساد خارطة المستقبل التي توافقنا عليها وارتضينا بها في نصر نادر على قوى الشر داخل مصر وخارجها.
ولكن لماذا أتشدّد في هذا المقال، داعياً - وللمرة الأولى في حياتي - لدعم مشروع قادم لنا من الدولة والنظام؟، الإجابة بسيطة، وهي أن مصر قد ابتلاها الزمن مؤخَّراً بنوع جديد من الصحفيين ومن النشطاء، ظهروا في الأسواق منذ عامين أو ثلاثة أعوام، لا أجد لهم تسمية إلا "نشطاء وصحفيو رأس القرد"، أعرفهم جيدا، فكثيرا ما قابلتهم في وسط البلد في السنوات العشر الأولى بعد عام 2000، عندما كان للنضال ثمن فادح، كانوا يتحرّكون وعلى رأسهم بطحة الصمت، كنا وقتها نقاوم التوريث، وكان نشطاء وصحفيّو "رأس القرد" يتكلمون معنا عن ضرورة إنهاء ظاهرة ختان الإناث، هذه هي اختياراتهم، وحسب أجندة الممول الأجنبي تكون أولوياتهم، فإذا كانت الموضة هي التعذيب في أقسام الشرطة يصبح دعاء هؤلاء المرتزقة: "اللهم اسحل هذا الشعب على أيدي الشرطة لنكتب ونتكسّب قوت أيامنا"، فقد اعتاد هؤلاء الصحفيون والنشطاء - إلى درجة الإدمان - البحث عن كل ما هو قذر ليغوصوا فيه، و"رزق الهبل على المجانيين"، فتارة يلحسون حذاء خيرت وبديع، وتارة "يعملوا فيها سبع رجّالة متجمّعين في جسد واحد"، معتقدين أنهم كلما تسافلوا على الجيش، كتب التاريخ أسماءهم كمناضلين، والحقيقة هي أن رصيدهم النضالي لا يتقدّم بفعل هذه التحرّكات الصبيانية والخدمات المجانية أو مدفوعة الأجر من قوى الظلام، ولكن أرصدتهم في البنوك هي التي تزيد وترتفع، وقد تنفجر تلك الأرصدة من عفن تلك الرائحة.
والعجيب في أمر هؤلاء المتمترسين في الوسط، هو العمى الذي أصاب قلوبهم وضمائرهم، ففي لحظة الفرز التي لا تحتمل سوى خندقين فقط - سواء مع أو ضد - راحوا يحرفون الأنظار بقضايا مختلفة تتعلّق بالشكل أكثر من المضمون، وعلى سبيل المثال، الحرب الضارية في سيناء وسقوط شهداء الجيش واحداً تلو الآخر، مع إصرار قواتنا المسلحة على دحر الإرهاب المتأسلم، فنجد صمت نشطاء "رأس القرد" عن دماء الجنود الفقراء الذين استشهدوا، بينما يملؤون الدنيا ضجيجاً لو تأخّرت زيارة لـ "مرسي" في سجنه، هذا التناقض صار سخيفاً ومشبوهاً ومقزّزاً، فالمعيار الحقوقي لدى بعضهم صار مكشوفاً للناس في الشارع قبل انكشافه للمتابعين.
والآن، عندما يكلّمنا أحدهم عن غياب نقطة أو فاصلة أو خطأ في الإعراب النحوي لنص من نصوص الدستور، أتأكد تماماً من صدق موقفي منهم، ولكن على أيّة حال، ثقتي كبيرة في قدرة بلادنا على المرور من عنق الزجاجة، وبعدها سيكون لكل حادث حديث، فالذاكرة المصرية لا تنسى أبداً، وقادرة على فضح الراقصين على كل الحبال.