ربما تبدو فى ظاهرك الأجمل والأبهى والأروع، تسكن أفخم القصور، تشغل أرفع المناصب، لكنك تخفى فى داخلك الأتفة والأسخف والأبشع! ربما تبدو فى ظاهرك الأوضَع والأفلَس والأرْدَأ، لكنك تخفى فى داخلك الأنقى والأعذب والأصدق!
ألا تكون فى أسعد حالاتك حين تصافحك «الكلمة الطيبة»؟! تلملم شظايا نفسك المتناثرة، وبقايا روحك المتهالكة، ألا تكون فى أسوأ حالاتك حين تمتهن «الكلمة الكريهة» دهاليز عقلك وأروقة قلبك؟! ألا ترى أن الكلمات الرديئة الفاسدة قد تحولت الآن إلى لعبة بلا ثمن، تتهاوى بين أيدى الناس؟! وكأن ثمة طاقة نورانية ماتت فى خلاياهم بعد أن تفككت وحدة مشاعرهم وأفكارهم وخيالاتهم وأحلامهم!
ألا ترى أن «الكلمة الجميلة» هى بداية الحياة؟! لأنها تجسد قمة الإحساس بالذات فى أوج قوتها وتآلفها وصفائها، ألا تلاحظ أنها غاية الانسجام الداخلى بين ثلاثية «الروح والنفس والجسد» والآخر؟! ألا يكشف تفاصيل القبـح المتوحش والمتغلغل فى كل شىء حولنا، أن جحيم الظاهر فى الواقع هو مرآة صادقة لخراب الباطن، المتمثل فى: خواء العقول، تصدع النفوس، فساد الضمائر؟!
ألا تدرك أن «الكلمة الدميمة» هى نهاية الحياة؟! لأنها تكشف تعفن النفس البشرية حينما تجعل الإنسان عاريًا تمامًا أمام نفسه وأمام الناس، فيُفْضَح قبح المستور فى مرآة عملاقة، ألا تشعر أنه حصاد أزمة عصر طاحن نعيشه؟! لم نشهد مثله على مر عصورنا المظلمة، وهو حدوث انتكاسة دامية فى تدنى مستوى الكلمة، بعد أن تمكنت من ذواتنا تلك التيارات المهلكة؛ انهيار القيم، فقر الثقافة، غياب الذوق!
يقول الفنان التشكيلى الراحل «حسين بيكار» فى مقاله «شاهد عيان فى مقتل صديق فنان» منذ سنوات عدة: (ما كنت أتصور أن كلمة بذيئة، غير مسئولة، تفتك بإنسان برىء، مثلما يفتك طلق نارى طائش بطفل وديع، نزل إلى الحديقة؛ ليلعب، وهو مطمئن أن أحدًا لن يعتدى عليه، أو يقذفه بطوبة، أو يسرق لعبته، فيكون لها مفعول الخِنْجر المسموم نفسه، الذى ينفذ إلى القلب الشفيف، فيقضى على صاحبه فى ثوان!).
(لم أكن أتصور أن من بين أدوات القتل ما هو أشد فتكًا من السواطير والمسدسات والقنابل، سلاح يتداوله غالبية الناس دون ترخيص، ترتكب به أبشع الجرائم أمام الجميع، دون محاسبة من القانون، أو ردع من العرف أو الضمير).
(لم أكن أتصور أن الموت يخطف تلك الروح الرائعة بهذه القسوة والسرعة، وأنا جالس إلى جوارها، أستمع إلى حديثها عن عنف القدر وحكمة الألم وبهجة الأمل، ظلت تنزف فى سيارتها خمس ساعات، دون أن تمتد إليها يد؛ لتوقف النزيف، وتعيد إليها دقات قلبها، والجانى حر طليق، أطلق قذيفته، ومضى، دون أن تمتد يد؛ لتقتص منه لجريمته الشنعاء!).
(لم أكن أتصور أن تقتل «كلمة» صديق عمرى «رشاد منسى»، الرئيس الفنى لقسم الإعلان بجريدة الأهرام، الفنان الرائد، صاحب الفضل الأول فى تطوير فن «الإعلان الصحفى» فى مصر والشرق؛ بعد أن حوله إلى قيمة فنية، يتذوقها ويستمتع بها قارئ الجريدة أو المجلة، مثل تابلوه رائع، أو قصة مدهشة).
(جلس «منسى» كعادته معى فى نادى «الجزيرة»، وحوله زوجته وبناته وأصدقائه، نسترجع ذكريات بعيدة، وفجأة سمعنا صوت جلبة، صياح، كئوس تتحطم، كأس مكسورة فى قبضة شاب يهدد به شابًا آخر، ونشبت مشاجرة مثل التى تدور فى «المَذْبح»، وتوقعنا تَعقُّد الموقف، وإشهار المطاوى، وإسالة الدماء، وجريمة على وشك الوقوع).
(لم يتحمل صديقى الرقيق هذا السقوط اللفظى، الذى صدر عن شاب جامعى وابن ناس، فقال له معاتبًا: لو كنت أنت فى هذا المكان بين والدتك وشقيقاتك، هل كنت ترضى عن الكلمات الشنيعة التى رددتها من دون حساب؟! فاعتبر الشاب هذا العتاب الهادىء من إنسان فى منزلة والده إهانة، فانطلق لسانه بمختلف أنواع السباب، وفى هذه اللحظة سكت صوت «منسى» إلى الأبد؛ فلم يحتمل طلقات الشتائم الموجعة، فتوقف قلبه!).
(هكذا وبكل بساطة غرز الموت خنجره المسموم بكلمة وضيعة فى جسد إنسان كان يملأ الدنيا بصوته وضحكاته، ليذهب فطيسًا، والجانى حر طليق، ينعم بالسلام والرضا، وهو يرقد فى قبره، وبصمة قاتله لا تزال عالقة بأذنه وقلبه ووجدانه!).
(لم يتعلم هذا الشاب مدى حقارة الكلمة العطنة! فراح يطلقها بلا قيد على مسمع منا ومن صديقى الرهيف، الذى لم يجد خيرًا من «النادى» هدوءًا وأمانًا، يذهب إليه هو وعائلته؛ ليغسل متاعب يومه بين أصدقائه الذين يلتفون حوله، فيغمرهم بطيبته وسماحته وكرمه وقلبه المفتوح).
لم أكن أتصور أنا أيضًا أن ما حدث لصديق «بيكار» سيصبح هو قانون الحياة الآن، أو قدرنا المحتوم الذى يداهمنا طوال الوقت! بعد أن تلاشى تمامًا الإحساس بالجمال من عالمنا الداخلى والخارجى، ومن ثمَّ إغلاق باب من أبواب المعرفة الإنسانية، التى تتسرب إلينا دومًا من كل مسام جلدنا وذهننا وروحنا ووعينا الظاهر والباطن.
إن الإيمان بخطورة «الكلمة»، وقدرتها الخارقة، وتأثيرها فى بناء الإنسان أو هدمه، ضرورة لا ندركها، ولا ننتبه لوجودها فى أغلب الأحيان، إلا بعد أن يدفع الثمن أناسًا هم الأطهر والأنبل والأشرف؛ لأننا نفتقر معنى «الجمال» فى كل شىء؛ بيوتنا، شوارعنا، مدارسنا، مؤسساتنا، حياتنا!