رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

التقدم الحضاري.. عربيًا وغربيًا «1»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ظهرت محاولة التقارب بين حضارتى «الشرق» و«الغرب» على أعتاب مرحلة جديدة من تطورهما فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وشهدت هذه المرحلة تقاربًا وتبادلًا ثقافيًا ليس بين طرفين متناقضين حضاريًا فحسب، بل متناقضين دينيًا وفكريًا. فالحضارة الغربية حسمت أمرها مع الكنيسة وجعلت من العقل حاكمًا ومرشدًا فى «عصر التنوير»، بينما انطلقت الحضارة الشرقية من أرضية دينية ترى أن اللحظة الذهبية للإنسانية وراءها وليست أمامها. والواقع أن بحث فكرة «التقدم» على المستوى الحضارى يفترض رؤية موضوعية لتاريخ العلاقة بين «الشرق» و«الغرب»، والأخذ فى الاعتبار خصوصية كل ثقافة على حدة؛ فالتواصل الروحى بين أبناء شعوب حضارات مختلفة تاريخيًا أو متباعدة جغرافيًا ينطلق من ضرورة الخروج من أزمات هذه الشعوب، وإن اختلفت مظاهر هذه الأزمات وجوهرها؛ فالتبادل المعرفى الذى شهدته البشرية هو وسيلة إحياء لطرفى هذه العلاقة. وسوف نحاول - فى الصفحات القليلة المقبلة - بحث الجذور الأساسية لفكرة «التقدم» فى حضارة الغرب وعلاقتها بثقافة الشرق العربي، من حيث كونها رؤية فلسفية ترى أن التاريخ يسير فى حركة مستقيمة إلى الأمام ومن الأدنى إلى الأرقى، هذه الرؤية تمتلك نماذج تاريخية متعاقبة تمثل الحضارة الغربية الحديثة ذروتها ونموذجها المتحقق فى الواقع. وقد صارت النهضة فى الثقافة الشرقية العربية مرادفة للسير على طريق المدنية الغربية وتحول مشروعها من مشروع إلحاق واستتباع حضارى إلى مشروع تقدمى أصيل، بمعنى أن خطاب النهضة ارتبط بمفهوم «التقدم»- الذى هو من المفاهيم المكونة للثقافة الغربية - وجعل مفاهيم أخرى مثل: «الإصلاح» و«التجديد» و«التحديث» و«التنوير» تحظى بقابلية كبيرة لدى المفكرين فى الشرق. 
وكثيرًا ما تردد فى الخطاب النهضوى العربى مفاهيم مثل: «التأخر» و«الغفوة» و«التبعية» باعتبارها تقريرات تصف حال الشرق، بل أحواله منذ القرن السادس عشر - أى منذ حكم الدولة العثمانية - فى مقابل شعارات «العقلانية» و«الحرية» و«التقدم» زمن بداية الثورة الصناعية. والحديث عن مفهوم «التأخر» يحدد واقعًا مقابل واقع، واقع الشرق مقابل واقع الغرب؛ يدُخل الشرق فى زمن التأخر، ويدُخل الغرب فى زمن الصعود. ومنذ زيارة «الطهطاوي» (١٨٠١ – ١٨٧٣) فرنسا، بدأ اللقاء التاريخى بين «التأخر» و«التقدم»، وشكلت هذه الثنائية (التأخر - التقدم) (الشرق - الغرب) إشكالية النهضة فى صورتها الأولى. ويمكن أن نتبين ملامح «التأخر» التاريخى فى سيادة نمط إنتاجى شبه إقطاعي، ثم فى علاقات اجتماعية راكدة ومعقدة التركيب؛ يضاف إلى ذلك استبداد سياسى وجمود ثقافى تغذيه مؤسسات تعليمية دينية تقليدية. وهذه السمات تتضح - بصورة قوية - عندما نقارنها بأحوال التقدم التاريخى فى الغرب، التقدم الذى تشكل ضمن نمط الإنتاج الرأسمالى، وأفرز مؤسسات الممارسة السياسية الديمقراطية؛ وبنى أفق الفكر العقلاني.
تفيد كلمة «التقدم» إلى كون الشيء موجودًا قبل الآخر، بحيث لا يوجد الثانى إلا إذا وُجد الأول. وله عند الفلاسفة أربعة أقسام، الأول: هو التقدم الذى يكون فيه المتأخر محتاجًا إلى المتقدم كالاثنين والواحد. والثاني: هو التقدم فى الزمان، وهو كون المتقدم فى زمان لا يكون المتأخر موجودًا فيه، كتقدم «أرسطو» على «الفارابي». والثالث: هو التقدم فى الرتبة، وهو كون المتقدم أقرب إلى مبدأ معين، وهذا الترتيب قد يكون بالذات - كما فى الأجناس والأنواع المتتالية - أو يكون بالاتفاق، كترتيب التلاميذ فى الصف بحسب بُعدهم عن الأستاذ أو قربهم منه. والرابع: هو التقدم بالعلية؛ فإن للعلة استحقاق الوجود قبل المعلول. وقد أرجع الفلاسفة هذه الأقسام المختلفة إلى قسمين هما: «التقدم العقلي»، و«التقدم الزماني»؛ فالتقدم العقلى هو الارتباط المنطقى بين الشيئين، فإذا كان أحدهما مبدأ والآخر نتيجة، كان الأول متقدمًا على الثانى تقدمًا عقليًا أو ذاتيًا. والتقدم الزمانى هو أن يكون أحد الشيئين أقدم زمانًا من الثاني. 
واضح من الكلمة ذاتها -«التقدم»- أنها مرتبطة بالسير إلى الأمام، أو الحركة إلى جهة معينة (وهذا هو معنى كلمة Progress الإنجليزية ونظيرتها الفرنسية Progrês، وهى فى أصلها كلمة لاتينية Progressus مشتقة من الفعل Progredi بمعنى السير إلى الأمام)، وهذه الكلمة ضد «التراجع» أو «التأخر»، مثل: «تقدم» القوم أى سبقهم، ومنه «تقدم» الصناعة و«تقدم» المرض، و«تقدم» الجيش. و«التقدم» الحقيقى هو التقدم المتصل وهو متناه، والمتناهى هو الذى يتجه إلى تحقيق غاية معينة فى مجال محدد. أما غير المتناهى فهو الانتقال الضرورى المتصل فى شروط معينة من حد سابق إلى حد لاحق، كما فى تسلسل الأعداد، أو تسلسل الأسباب الفاعلة. و«التقدم» إضافى أو مطلق، الإضافى هو الانتقال من الحسن إلى الأحسن، أى من حالة يعدها الناس تخلفًا إلى حالة يعدونها كمالًا؛ ويختلف حكم الناس على طبيعة هذا الانتقال باختلاف القيم التى يتصورونها. أما المطلق فهو «التقدم» الناشئ عن الحتمية التاريخية أو الكونية، أو عن القدرة الحقيقية المؤثرة فى الأفراد؛ أو عن الغائية المسيطرة على تغيرات الحياة. ويخلط البعض بين القول بالتقدم والقول بالتغير؛ حيث إن التغير ينصب - بصورة خاصة - على التطور الكونى أو على عالم الظواهر الفيزيائية؛ كما أنه ينقل إلينا حقل الظواهر الاجتماعية والتاريخية المتصلة بالطبيعة والقوى الكونية. فالتقدم – بهذا المعنى – مظهر جزئى من مظاهر التغير، لكنه تغير مرتبط بقيمة؛ وذلك حين يقبض الوعى الإنسانى على واقعة من الوقائع ويدرك معنىً خاصًا لها يعلق عليه أهمية إنسانية خاصة للفرد أو للمجتمع.