ونعود مرة لنحاول الإمساك بالزئبق الذى تجسد نقولا أمامنا بكتابته كنموذج لمثقف نادى بالاشتراكية وبحقوق الكادحين وبالحرية والديمقراطية تسبق هذا كله؛ ثم قال ما قال من صفات الزعيم المستبد الذى لا مفر منه.. ومرة أخرى نسير عبر المواقف المتناقضة. ونأتى إلى قضية محورية وهى «الموقف من الاتحاد السوفيتى الذى كان الاشتراكيون يتخذونه قبلة ومنارة» فنجد أيضا متناقضات عدة.. ففى كتابه الأول عن علم الاجتماع اتخذ موقفا يمكن وصفه بالمحايد والمنتظر للنتائج الفعلية فيقول:
«الأحزاب الاشتراكية تنهض الآن فى كل البلاد الدستورية تقريبا، وهى تتقوى تدريجيا، ولا نستبعد أن تصل فى المستقبل إلى السلطة فى بلدانها، وإلى الآن لم ينجح حزب اشتراكى فى الوصول إلى السلطة، لكن جماعة من الثوريين وصلوا إلى السلطة فى روسيا عبر قيامهم بثورة وحاولوا أن يجعلوا الحكم اشتراكيا وإلى الآن لم نعلم إن كانوا قد نجحوا أم لا» (الكتاب الأول – ص٧٥).
ولكنه عندما أصدر كتابه الثانى عن علم الاجتماع كان قد حزم أمره وهاجم الاتحاد السوفيتى وهاجم قادته وحكومته ووصفهم بالرعونة والتهور. ثم يقول: «فقد تبدت التجربة الشيوعية الروسية تجربة سيئة للديمقراطية الاقتصادية ففشلت أو تكاد؛ لأن الزعامة الروسية اتجهت لتحقيق تطويرين عظيمين فى وقت واحد وهما تطوير كل من النظام الاقتصادى والنظام السياسى على قاعدة الديمقراطية، محاولة أن تقفز بالأمة الروسية قفزة واحدة من الدور الثانى إلى الدور الرابع من أدوار التطور؛ ولهذا عانت الأمة الروسية معاناة شديدة، وحتى الزعامة التى قادت هذا التطور ونفذته عانت هى أيضا واضطرت إلى أن ترتد من الدور الرابع إلى الدور الثالث محاولة أن تقرر الديمقراطية السياسية أولا ثم تذهب إلى الديمقراطية الاقتصادية فى المستقبل».
ولعل هذه الرؤية يمكن اعتمادها نظريا ولكن الفصل بين المرحلتين فصلا ميكانيكيا كان فى ذلك الوقت وربما حتى الآن فى كثير البلدان أمرا غير ممكن، ومع ذلك الخلط الميكانيكى والبعيد عن الفكر الذى اعتدنا على قراءته فى كتابات نقولا حداد فإنه لا تفوته أن يستخدم الثورة البلشفية، والسلطة التى أقامتها كوسيلة لإفزاع القوى السياسية الرأسمالية فيقول: «وبالرغم من فشل الاشتراكية الآن، فإن الحركة التى حدثت فى روسيا كانت واحدة من العوامل التى فتحت المجال أمام نهوض الأحزاب الاشتراكية، فإذا لم تكن إلا عبرة لعميان البصيرة من رجال السياسة وملوك المال ونذيرا لهم بسوء المصير.. فيكفيها ذلك» (الكتاب الثانى ص ٣١٣).
ولكننا نمتلك الحق فى أن ندهش فى استمرار نقولا فى الدفاع عن قضايا الحرية والديمقراطية دفاعا مجيدا ونقرأ: «فإذا كان الضلال والخطأ والبطلان نحو هذه المساوئ لا تثبت أمام المناقشة الحرة فإنه يكون من حقنا أن نحترم حرية الكلام وحرية الاجتماع وحرية الصحافة والطباعة والنشر والوسائل الصحيحة للإقناع بالحق والدلالة عليه»، ثم يشن هجوما قاسيا - وهو الذى دافع دفاعا مستميتا عن الزعيم المستبد - على الحكام الذين يضطهدون أو يمنعون المدافعين عن الحرية ونقرأ: «وكل قوة تخنق هذه الحرية تعد مجرمة، ويحق للشعب الذى تخنق حريته أن يخرج ضدها ومن ثم يرد عليها ويقهرها. فالقوة الحاكمة لا تعتبر عادلة الأحكام إلا اذا كانت تقدر هذه الحرية التى هى أساس الرأى العام، وبتقديسها الرأى العام وحرية الشعب يحق لها أن تصدر الأحكام وتحاكم من يخرج على القانون وإلا كانت أحكامها جائرة وظالمة، ويحق للشعب أن يقلبها ويعاقب القائمين بأمرها، إذ إن أساس شرعية كل سلطاته هو إطلاقها الحرية للجماهير الخاضعة لحكمها، وحيث تنتفى الحرية تصبح هذه السلطة غير شرعية» (الكتاب الأول- ص٢٩٩)، وهو يرفض المنطق البرجوازى للديمقراطية فيقول: «ولكن إلى الآن لم تبلغ أمة قط إلى مستوى الديمقراطية المطلقة؛ لأنه وإن كانت السلطة الوراثية تزول تدريجيا وخرجت من أيدى الملوك والأفراد والأعيان فقد تلقفتها أيدى ملوك المال والأعمال وزعماء السياسة.. فالسلطة تصبح الآن للمال مع أن الواجب أن تكون للعلم والأخلاق»، ولكننا وبرغم كل انتقاداتنا لتناقضات نقولا الحداد فى هذين الكتابين فإنه وبرغم كل شيء قد وضع بكتابة أساس علم الاجتماع فى كل المنطقة العربية ونجح فى إلهام قرائه من مثقفى البلدان العربية رؤية علمية وتقدمية لتطور المجتمعات، الأمر الذى نال قسطا كبيرا من الإعجاب وجعل نقولا حداد واحدا من أشهر وأرقى مثقفى عصره، الأمر الذى يدفعنا لأن نكون مجبرين وأن نورد بعضا من مقالات الإعجاب وتعليقات الإطراء على احترام كتاباته وتقديرها التى تكاثرت عديدا من مثقفى الوطن العربى على امتداده وأيضا مثقفى المهجر. ونكتفى بقليل منها كمجرد نماذج فنقرأ مثلا لوديع بستاني- يافا فى مجلة «فلسطين»: فيا أمة السياسة ويا أفرادها هذا كتاب علم الاجتماع بين أيديكم مفتاحا لعلم السياسة، ويقولون إن السياسة أم الرئاسة، وكلكم أبناؤها تجلونها وتنظمونها، فإليكم هذا الكتاب اقتنوه ومزقوا صفحاته قراءة وتلاوة ثم تفرقوا بعد ذلك فى طرق السياسة ما شئتم». وفى المقتطف يقول أسعد داغر «إنه كتاب كثير النفع جزيل الفائدة، وما نريد أن نصفه بشكل مختصر فنقول إن كتاب علم الاجتماع وحيد فى بابه فريد فى نوعه ولم يحدث من قبل أن أتانا بمثيل له كاتب ولا أنتجت قريحة كاتب عربى مثيلها».
والحقيقة أن الكتاب والمثقفين العرب الذين أجمع كثيرون منهم على مديحه وتقريظه كثيرون جدا، أورد نقولا حداد قليلا مما كتبوا فى الصفحات الأخيرة من الكتاب الثانى. وربما جاء هذا المديح الذى يستحقه الكتابان عن جدارة، هو جدير بها لا شك فى ذلك، ولكن ربما كان من قرظوا الكتاب بمجاملين فتجاهلوا ما به من تناقضات لا يمكن اقتناصها إلا عبر قراءة أكاديمية مدققة، أو ربما تجاوزوا عنها مراعاة لقيمة الكاتب أو قيمة الكتاب أو مجاملة له.
لكن نقولا حداد لم يتوقف عن الكتابة، ولم يكف عن غزو مجالات جديدة تماما فى البحث العلمى الأكاديمى فقد واصل تحديه لنفسه ولمثقفى مجتمعة وقام بغزوة جديدة فى مجال جديد هو علم الأخلاق أو كما أسماه بالإنجليزية «Ethics» ويسميه علم «أدب النفس»، ويتحدث فيه كما فعل فى كتابى علم الاجتماع بتبسيط مريح للقارئ العادى وبتحليل علمى يستحق الاحترام، ونتواصل مع نقولا حداد.