يتابع المفكر السياسى الفرنسى البارز تييرى دو مونبريال، مدير المركز الفرنسى للتحليلات والتوقعات التابع لوزارة الخارجية الفرنسية، فى كتابه الضخم بعنوان «عشرون عامًا قلبت موازين العالم» للتحولات العالمية الضخمة التى شهدها العالم خلال الفترة من ١٩٨٩ إلى ٢٠٠٨.
يقول تييرى دو مونبريال: عندما تولى جورباتشوف السلطة فى عام ١٩٨٥، لم يكن يعلم بالتأكيد، ولا حتى فى مطلع عام ١٩٨٩، أنه هو من سيقوم بهدم الشيوعية، وكذلك كان هلموت كول الذى لم يكن بمخيلته أن وحدة ألمانيا سوف تعود على يديه.
إلا أن هاتين الشخصيتين المرموقتين قد فهمتا جيدًا أن بمقدوريهما تغيير مجريات الأحداث، لذلك اعترف العالم أجمع أنهما من الشخصيات البارزة، فقد صار الأول الشخصية الأولى لعام ١٩٨٥، والثانى بهر الجميع بكشفه عن مهاراته الكامنة فى خريف عام ١٩٨٩.
فقد عرف المستشار الألمانى كيف يزج بجورج بوش داخل اللعبة بدءًا من شهر فبراير، وعلى الرغم من ذلك، فقد كان تفاعل هذا الأخير حذرًا عند فتح حائط برلين فى نوفمبر عام ١٩٨٩. كما عرف، ولكن بطريقته الخاصة، كيفية اغتنام الفرص، مطبقًا هذه المرة حكمة الكاتب المعروف جون كوكتو التى يقول فيها: «عندما لا تستطيع اللحاق بالأحداث، فالتظاهر بأننا من صناعها». فالظروف هى مفتاح أو غلق الأبواب عند الشروع فى عمل عظيم، وهى أيضًا التى تمنع أو تسمح بتشكيل أو تنفيذ خطة التنفيذ، وممارسة السلطة؛ حيث يستقر جوهر الحراك السياسى، يفرض الخضوع الفورى لواقع الأحداث. فالحياة السياسية العادية لا تترك على الإطلاق بصمات بارزة سوى الأنشطة البشرية، ولكن أحيانًا تبرز فرصة على سطح الأحداث.وكانت هى هذه الحال فى عام ١٩٨٩، فعرف هلموت كول كيف يغتنمها، فالعظام من الرجال هم من يقتنصون الفرص، فأعينهم تبحث دومًا اختراق الأوضاع الملموسة التى تظهر أمامهم من أجل الاستفادة منها.. وهنا يكمن، فى حقيقة الأمر، تميزهم عن رجال الفكر ورجال العلم، فبالنسبة إلى الفريق الأول، كل شيء وليد اللحظة، أما بالنسبة إلى الفريق الثانى فالعمل الفورى فائدته الوحيدة فى إنتاجيته، فمن منظورهم، كل شيء يسير فى اتجاه البقاء والثبات والعمومية.
لفقد كان الكاتب الكبير مالرو يقول: إن السياسة ليست هى ما نقوله، بل ما نفعله، وهو ما ينطبق أيضًا على الحب.
وفى هذا الصدد يتعين علينا التذكير بأحداث ثورة ١٩٨٩، لقد كانت بولندا أول دولة تشق طريق الثورة، ففى أبريل عام ١٩٨٩، بدأت تتفتح ثمار المعارك التى خاضتها حركة التضامن منذ عشر سنوات، وذلك بالتوصل إلى اتفاق «المائدة المستديرة».. وتم، فى الثانى عشر من سبتمبر، تشكيل أول حكومة غير شيوعية بقيادة تاديوتز مازوفيسكى. وحذت المجر حذو بولندا بالبدء فى مفاوضات «المائدة المستديرة» بين السلطة والمعارضة فى الثالث عشر من يونيه. وفى أكتوبر ١٩٨٩، تم إسقاط حزب العمل الاشتراكى، واحتفلت المجر بقيام الجمهورية المجرية التى تخلت عن صفة «الشعبية»، فمنذ مايو ١٩٨٩، عندما قامت المجر بتفكيك الستار الحديدى الذى يفصلها عن النمسا، كان هذا إيذانًا ببدء الهجرة الكثيفة للألمان من ألمانيا الشرقية. وقد عجل من انهيار النظام فى ألمانيا الديمقراطية، الزيارة التى قام بها جورباتشوف فى السابع من أكتوبر، والإفراج عن إيريك هونيكر الأمين العام للحزب الاشتراكى الشيوعى الموحد ورئيس ألمانيا الديمقراطية من ١٩٧١ إلى ١٩٨٩، والإطاحة فى الثامن عشر من أكتوبر. وفى التاسع من نوفمبر، سقط حائط برلين. وفى أعقاب انتخابات ١٨ مارس ١٩٩٠، تم تشكيل حكومة ائتلافية فى ألمانيا الديمقراطية مكونة من الحزب الديمقراطى الألمانى والحزب الديمقراطى الحر والاتحاد الديمقراطى المسيحى.
وكان الدور على بلغاريا بانسحاب تودور جيفكوف -السكرتير الأول للحزب الشيوعى البلغارى ورئيس بلغاريا فى الفترة من ١٩٧١ حتى ١٩٨٩- فى العاشر من نوفمبر، ولكن بخطوات مهتزة نظرًا لغياب التقاليد الديمقراطية. وفى السابع عشر من نوفمبر، دارت العجلة لتقف عند تشيكوسلوفاكيا، عندما تم، بضغوط من الشارع والأحداث السابقة، الإطاحة بميلوس جاكيس فى الرابع والعشرين من نوفمبر، وفى السابع من ديسمبر تولت الحكم حكومة ذات أغلبية غير شيوعية، وتم انتخاب فاكلاف هافل لرئاسة الجمهورية فى التاسع والعشرين من ديسمبر. وأخيرًا، فى الخامس عشر من ديسمبر، لحقت هذه التقلبات برومانيا، ووضع هروب تشاوتشيسكو وزوجته وإعدامهما فى الخامس والعشرين من ديسمبر، نهاية للنظام الأكثر دكتاتورية والأكثر ثقلًا فى الكتلة الشرقية. أما يوغسلافيا، فلم تكن بمنأى عن هذه الأحداث، فعلى الرغم من قيامها بتجربة فريدة منذ عام ١٩٤٨، فإنها كانت لا تزال مطوقة بالطوق الحديدى لعصبة الشيوعية، التى انكسرت بسبب ضغوط التطلع نحو الديمقراطية، لاسيما فى سلوفينيا وكرواتيا.
ففى السادس والعشرين من مايو عام ١٩٩٠، تخلت عصبة الشيوعيين من احتكار الحزب الشيوعى، وأخضعت بعض الاتجاهات القوية الراغبة فى الانفصال عن مركز الإمبراطورية السوفيتية البلاد لضغوط انفصالية، فقد نادت كل من سلوفينيا وكرواتيا اللتين أصبحتا لديهما حكومات غير شيوعية، بقيام اتحاد فيدرالى، مرن، ولكن صربيا القوية أرادت المزيد من المركزية. وفى الثانى من يوليو ١٩٩٠، أعلنت سلوفينيا التى انفصلت عن الحزب الشيوعى، استقلالها. أما كوسوفو التى كان يتنازع عليها كل من الصرب والأغلبية الألبانية، فقد أقرت، فى اليوم نفسه، دستورًا جديدًا يتيح لها الانفصال عن صربيا. هل كانت لرياح الليبرالية هذا الأثر فى فتح ثغرات فى القلعة الألبانية؟ هذا ما تشير إليه، الإصلاحات الطفيفة التى تم الإعلان عنها فى إبريل ١٩٩٠.
أما فيما يتعلق بالأزمة التى اندلعت بتدفق نحو خمسة آلاف لاجئ إلى السفارات الغربية فى تيرانا، فلقد تم التغلب عليها بالكامل تقريبا دون وقوع صدامات. إن ثورة ١٩٨٩، لم يكن مقدرًا لها أن تندلع، لولا أن قرر الكرملين السماح بذلك.
لقد بدأ هذا التحول الحاسم عندما اندلعت التظاهرات فى ألمانيا الشرقية فى منتصف أكتوبر، وعندما أفرج جورباتشوف عن هونيكر، فقد كان ذلك تخطيا لنقطة اللاعودة.