يتابع المفكر السياسي الفرنسي البارز تييري دو مونبريال، مدير المركز الفرنسي للتحليلات والتوقعات التابع لوزارة الخارجية الفرنسية، في كتابه الضخم بعنوان "عشرون عامًا قلبت موازين العالم"، للتحولات العالمية الضخمة التي شهدها العالم خلال الفترة من 1989 إلى 2008.
يقول تييري دو مونبريال: ففي الوقت الذي قام فيه الكاتب والمفكر الأمريكي الشاب "فرنسيس فوكوياما" عندما كان يعمل مستشارًا بوزارة الخارجية، متأثرًا بأفكار هيجل ومعبرًا عن سعادته الغامرة بثورة جورباتشوف التي رأى فيها انتصارًا نهائيًا للأيديولوجية الليبرالية واستتباب السلام الدائم، بإثارة أنظار العالم إلى فكرة نهاية التاريخ، فإن كل شيء، يشير، إلى العودة من جديد إلى الوراء وحنين الشعوب إلى جذورها الأصلية وولعها بتاريخها القديم.
فخلال الثلاثين عامًا التي تلت الحرب العالمية الثانية، كان يبدو أن تقدم الشيوعية محتوم، على الرغم من الشقاق الذي حدث في عام 1960 بين الصين والاتحاد السوفيتي، الذي أدى، على الأقل، إلى اختفاء أسطورة وحدة الدول الاشتراكية.
لقد قام النظام الشمولي فى الاتحاد السوفيتي ، وبقسوة ، بقمع جميع محاولات التمرد سواء داخل الإمبراطورية أو على أعتابها، فالحركات الاستقلالية تخلق فيما يبدو، فرصًا عديدة لتعديل توازن القوى لصالح إما موسكو وإما بكين، وهذا ما يسمى بعصر العالم الثالث الكبير.
وفى أوروبا نفسها، بينما بدأت قوة أمريكا فى الضعف، وكان قيام ثورة القرنفل بالبرتغال وانتهاء عهد الجنرال فرانكو بإسبانيا نذيرًا بتردي الأوضاع، وفى هذا الوقت كانت الحركات الاستقلالية فى إفريقيا قد أسفرت عن نتائج سيئة، ولكن غالبًا ما يؤدى توقع الأسوأ، والعمل على أساس ذلك، إلى تجنب الكارثة. فقد استطاعت البرتغال تجنب ويلات اندلاع الثورة، كما أن المرحلة الانتقالية الديمقراطية التي حدثت بإسبانيا واندماجها في العالم الغربي.
ففى عام 1974، عقب صدمة النفط الأولى، كانت الجزائر هي من تزعمت، مدفوعة بالفكر الماركسي، حركة تأسيس "نظام اقتصادي عالمي جديد".
وفي هذه الأثناء كانت حرب فيتنام على وشك الانتهاء، فاندفعت أمريكا فى عهد جنسون، سيرًا على خطى الرئيس الشباب المغتال جون كيندي، مغامرة غير محسوبة العواقب، فلقد عمدت على تجاهل التداعيات الاقتصادية لتعهداتها، فربما نستطيع أن نرى في هبوط الإنسان على القمر، في عام 1969، ومن ثم بداية تراجعها أربع سنوات مبكرًا بسبب فضيحة ووترجيت التي أسفرت عن استقالة ريتشارد نكسون في أغسطس 1974.
لقد تسببت حرب فيتنام وفضيحة ووترجيت في تحطيم معنويات الشعب الأمريكي، أما جيمي كارتر فقد كان رد فعله سيئاً وضعيفاً، تجاه سقوط إمبراطورية شاه إيران.. فكل الأحداث، حينئذ، لصالح موسكو. ففي عام 1979، بعد أن تمكن الكرملين من إعداد طاقة وإمكانات عسكرية هائلة (تقليدية ونووية) في ظل الحرب الباردة، قرر أن الأوضاع ملائمة لانطلاق الجيش الأحمر السوفيتي، إلا أن الأمور لا تسير دائما بهذه البساطة، إن تراجع الاتحاد السوفيتي كان قد سبق إعداده، في الداخل، نتيجة تدهور الهياكل الاقتصادية وانتشار الفساد، أما في الخارج، فلقد بدأ بالفعل تراجع الأيديولوجية الماركسية.
وبينما كان العالم يشهد ازدهارًا اقتصاديًا غير مسبوق، كان الشباب في عام 1968، فقد بدأوا، بحماس، رفض أيديولوجية "الرجل ذو البعد الواحد" كما ذكر عالم الاجتماع والمؤرخ هبربرت ماركيوز في كتابة الشهير، باحثين عن أسباب جديدة للحياة في ظل الماركسية، ليس على طريقة ماوتسى تونج، بواسطة المخدرات فحسب، بل وأيضًا عن طريق اتباع مذاهب روحانية متعددة مثل الهندوسية.
لقد نشأت الحركة الطلابية في الولايات المتحدة، أولاً كرد فعل مضاد للتعبئة العسكرية لحرب فيتنام التي حظيت باستياء الشعب الأمريكي، ثم شرعت في الانتشار في جميع أنحاء أوروبا.
أما فرنسا، فقد شهدت أحداث مايو 1968 الشهيرة التي زعزعت حكم الجنرال ديجول، أما خليفته، جوروج بومبيدو، فقد قضى الشعب الفرنسي فترة حكمه في ظل حالة "من الكآبة" وهو اللفظ الذي وصفت به، في عام 1973، معنويات هذا الشعب الذي أعتقد أن الأفق من أمامه لا يظهر به سوى النمو الاقتصادي والسلام، وعندما لم يتحقق هذا، استمر إحساسه برتابة الحياة.
وعند ظهور أيديولوجية جديدة للإحلال، لم تقو الماركسية ولا اللينينية على التصدي للصدمات الأربع المتتالية التي واجهتها، كانت أولى هذه الصدمات هي أحداث ربيع مدينة "براغ" وبداية حركة الإصلاح السياسي والاقتصادي بقيادة "الكسندر دوبتشيك" التي توقفت بدخول القوات السوفيتية العاصمة التشيكوسلوفاكية في 20 أغسطس، بعد اثني عشر عامًا من استشهاد عشرين ألفًا من الشعب المجري عقب غزو القوات السوفيتية في نوفمبر 1956، وبعد خمسة عشر عامًا من الأحداث القمعية للحركات العمالية في برلين الشرقية التي كشفت حقيقة النظام السوفيتي أمام من كانوا يريدون تجاهلها، وفتح أعين من كانوا لا يريدون أو من لم يعرفوا حقيقة النظام الشيوعي.