تقول الروح للجسد: أنا لا أريد منك شيئًا، أنا فقط أحبك، أهديك ذاتي، فلا تتحرك، لا تنشغل بشيء، كن كما أنت، تصرف بتلقائية خالصة، أنت تمسك بيدك حريتي، أنا تحت سيطرتك تمامًا، يرقص الجسد إجلالاً وابتهاجًا أمام هذا الحدث الإنساني الفريد، يستسلم لها، يدنو، يغزو، يسخو، هي تسكنه، تطهره، تحرره، تغمره بأمواجها الرقراقة، تبعث الدفء في ركاماته، تمنحه الحياة، فيعزف ألحانًا وأفكارًا وأشعارًا متناهية العمق والشفافية والعذوبة.
إنها قصة التقاء الروح بالجسد، أو امتزاج الإرادة الحية بالخلق اللاإرادي، أو طفرات الروح في بحثها الدائم عن معنًا مشرقًا وهاجسًا مجديًا للوجود، أو معجزة الإنسان كي يصبح جزءًا من إيقاع الكون ونبضات مخلوقاته وموجوداته، فنحن نرقص؛ لنحرك كل العالم داخلنا ومن حولنا!
هى أقدم لغة عرفها الإنسان، وتعلم مفرداتها العضلية والنفسية والروحية بإيحاء من الطبيعة، التي تدور وفق نظام محسوب ودقيق ومحكم، فكل الأشياء تتحرك حوله؛ أمواج البحار، شروق الشمس، غروبها، اكتمال القمر، نقصانه، ثم اكتماله مرة أخرى، إزهار الأشجار، إثمارها، ضربات القلب، إغماضه رمشة العين!
تولدت في البدائي رغبة جارفة في تقليد هذا الكون البديع؛ للتعبير عن كل أفكاره ومشاعره وانفعالاته الغريزية المكبوتة، أو مناجاته للآلهة واحتجاجه عليها وشكره لها؛ ليعيد التوازن الطبيعي لذاته وللحياة التي تدفعه دومًا إلى صنع حركة مبتكرة، يجسد بها الأسرار الخفية المذهلة التي يشعر بها تتحرك داخله وخارجه.
أدرك المصري القديم عبر التاريخ البشري، عبقرية لغة الجسد، فحظى "الرقص" في الحضارة الفرعونية بمكانة رفيعة من الاحترام والتبجيل، بوصفه فنًا راقيًا مقدسًا، تزاوله الآلهة، تستمتع بمشاهدته، فلا تكاد تخلو طقوس الشعائر الدينية والاحتفالية والجنائزية في رحاب المعابد والقصور من روعة مشاهد رقص الرجال والنساء معًا في وحدة هارمونية متناغمة، تنطق بمعاني التعبد والخشوع، أو الخوف والألم، أو الفرح والأمل.
لمحت طيف هذا الفن المبهر، الضارب بجذوره في عمق حضارتنا العظيمة التي أذهلت العالم منذ عدة سنوات في الفيلم أمريكي المدهش "Shall we dance"، الذي أُخِذ عنه الفيلم المتميز "ما تيجي نرقص" للمخرجة الجريئة "إيناس الدغيدي"، الذي قدم نماذج بشرية تجمع بين قمة الجمود والتَّزمُّت وقمة الإنطلاق والتحرر، وهو حقيقة المجتمع المصري بكل متناقضاته العجيبة، إلا أن "الحلم السينمائي" نجح في جعلها تعيش معاني الحب والصداقة والسلام، رغم واقع الرفض والقمع والمصادرة!
تدور أحداثه حول شخصية "سلوى" المحامية والزوجة التي تواجه أزمة ما بعد منتصف العمر، حينما يفقد زوجها مشاعر الحب الرقيقة التي كانت تجمعهما في الماضي، ويصبح مجرد قدر لا فرار منه! فيتولد لديها شعورًا خارقًا بالسأم والملل، يدفعها إلى اكتشاف "مدرسة الرقص" الكائنة في نفس العمارة التي تعمل بها، حينما تتسلل إليها مصادفة أنغام الموسيقى الساحرة مع تدفق الحركة الآسرة، فتلتحق بها، لتبحث عن سعادتها الغائبة، فتصبح كيانًا آخر، خفيفًا مجنَّحًا، ورغم استخفاف واعتراض زوجها، إلا أنه يقرر في النهاية خوض نفس التجربة.
تجمع المَدْرسة شخصيات مختلفة؛ زميل "سلوى" عاشق الرقص المثقف، "ماجي" المرأة التي ينحصر كل همها في البحث عن رجل! والصعيدي وصاحبه السمين اللذان يجسدان بلاهة وسخافة عجز الطبيعة الذكورية في مواجهة إغواءات الجسد الأنثوية! وشابان يتمسكان بحقهما في ممارسة الجنسية المثلية! وفتاتان محجبتان يرفضن أن يدربهن رجل! فتتولى "ماجي" هذه المهمة، والشاب المتطرف الذي يحاول غلق المدرسة، ويتعمد ضرب شقيقته، وإرغامها على تركها؛ لأنه لا يرى فيها سوى وكر للدعارة والشذوذ! و"سوزي" صاحبة المدرسة التي تحاول استمالة المدرب الشاب، رغم فارق السن بينهما! بينما هو يميل إلى "سلوى"؛ هروبًا من أزمة عاطفية مع صديقته "إيمي" التي تزوجت في سن مبكرة، ثم أصيبت بعقدة من الزواج!
نجح "رفيق الصبان" صاحب المعالجة الدرامية و"إيناس الدغيدي" المخرجة في إيجاد صيغة متماسكة، تضم كل هذه التناقضات، وقدم كاتب السيناريو "أسامة فهمي" رؤية تحترم أصحاب الجنسية المثلية، بعد أن منحتهم الجمعية الأمريكية للطب النفسي حق الاستمتاع بحياتهم وفقًا لطبيعتهم الخاصة.
أتقنت "يسرا" دور المحامية الجادة والفراشة الهائمة، وتحول "تامر هجرس" إلى آلة ماهرة في الأداء الراقص، لكنها خلت من الروح، وافتقد أداؤه التمثيلي القدرة على تصوير المشاعر في أدق انفعالاتها، كما طغت موهبة "هالة صدقي" الكوميدية، وأطفت عفوية وخفة دم "سليمان عيد" حضورًا لامعًا، وتألق الراحل "طلعت زين"، كما اتسم أداء "عزت أبو عوف" بالنضج في فهم مقتضيات التطور التي تمر بها الشخصية، وجمعت "إيمي" بطلاقة بين براعة الأداء الراقص وصدق الإحساس، وبدا أداء "ليلى شعير" هادئا وطبيعيا.
وظف مصمم الرقصات "وليد عوني" بحرفية مفردات الحركة التعبيرية الراقصة؛ لتوصيل المعاني والدلالات الدرامية كافة في نعومة وبساطة ورشاقة، واستغل "مودي الإمام" فى موسيقاه جاذبية إيقاع التانجو، وأضفى الحرارة والحيوية على لحن "فريد الأطرش" بعد إعادة توزيعه، كما هيأت إضاءة "محسن أحمد" الجو الذي يلائم خصوصية كل لقطة، وأجاد المصور "وائل خلف" حركة الكاميرا، وقدم المونتير "معتز الكاتب" الإيقاع المنتظم في الحوار بين الأداء الراقص مع الموسيقى.
إنه عمل سينمائي ممتع، معبأ بأطروحات ساخنة، تستحق إعادة التأمل والتحليل والمناقشة، لكنه مع ذلك لم يكرس بجدية وصرامة لفكرة الكبرياء والانتصار لفن الرقص كقيمة تنويرية، لا تخلو من الرؤى الفلسفية، والمباهج الروحية، والأفراح الفكرية، التي تجعل الحياة أكثر رحابة وروعة وجمال.