فى الشهور الأخيرة عادت الحملة على المؤسسات الدينية باعتبار تقصيرها وعجزها إلى التصاعُد. وقد حدث ذلك على وقْع الأحداث الإرهابية الفظيعة ببعض البلدان. والطريف أنه فى الفترة ذاتها تسارعت خطوات وندوات ومؤتمرات المؤسسات الدينية، والشخصيات الدينية فى مكافحة التطرف والإرهاب، ومهاجمة المتطرفين واعتبارهم مجرمين وقَتَلة، وضرورة التعاوُن مع السلطات من أجل مواجهتهم بكل سبيل، وقد أساءوا إلى الدين والمجتمعات، وتسببوا فى تسليط قوى العالم على ديارنا بحجة صَون أمن العالم من شرور الإرهاب الإسلامى.
تتحدث السلطات، ويتحدث المثقفون والإعلاميون عن أمرين على المؤسسات الدينية القيام بهما: تجديد الخطاب الدينى، وتطوير المناهج التربوية، وقد تغيرت المناهج التربوية أو المواد الدينية فيها بالفعل، ولا تزال عُرضةً للتغيير. لكنّ المثقفين لا يعرفون ولا يهتمون ولا يعرضون المناهج التى يعتبرونها كفيلةً بالتخليص من الإرهاب. وقِدْيمًا أتى الرئيس التونسى ابن على بمحمد الغنوشى لتطوير المناهج ولبرلتها ففعل كلَّ ما بوُسعه لكى لا يُذكر الإسلام كلّه إلاّ مراتٍ قليلة فى المناهج، ومع ذلك فإنّ التطرف بين الفتيان فى تونس صار ظاهرةً بارزة. أما تجديد الخطاب الدينى، فالمقصود به خطابات الأئمة فى المساجد، وكلام الدُعاة فى التليفزيونات. وقد تغيَّرت أيضًا كثيرًا، وصار الحرص أكبر والحذر أشدّ، لكن فى وجه استمرار الهجمات على الهيئات الدينية، يمكن القول إنّ متغيرات المساجد، ومناهج التدريس ليست مهمةً لدى المتطرفين والإرهابيين. فهم جميعًا من خارج المؤسسات الدينية، ولا يكادون يعرفون مسجدًا. وهناك شواهد على ذلك كثيرة من التحقيق معهم: فأكثرهم ما ذهب أيضًا إلى المدارس، ولم يتعلم فيها، وفى البرامج التعليمية الرسمية، كما فى المعاهد والمؤسسات التى يشرف عليها الخبراء الدينيون المحترفون. فمعظم الانتحاريين والمقاتلين هم من الأُميين، أو حصلوا على شهاداتٍ شرعيةٍ من معاهد خاصة مجانية تُدارُ بأيدى المتطرفين. ولدى بعضهم شهادات متوسطة، اتبعوا بعدها طريقًا مهنيًا لكى يجدوا عملًا. وقد جرى تجنيد كثيرين وهم يبحثون عن عمل! وما أقصدُهُ من وراء ذلك، أنّ هؤلاء لا يمكن التأثير فيهم من جانب المؤسسة الدينية، لأنّ المؤسسات لا تعرفهم ولا هم يعرفونها!
بيد أنّ نفى القدرة على التأثير على هذه الفئة، لا يعنى نفْيَ المسئولية. فالمؤسسات الدينية لديها دائمًا أربع مهمات: الحفاظ على وحدة العقيدة والعبادة، والتعليم الدينى، والفتوى، والإرشاد العام. وفى الحقّ أنّ مؤسساتنا الدينية ما تمكّنتْ من الحفاظ على الوحدة فى المساجد فى معظم البلدان، وما تمكنت بمساعدة السلطات من الانفراد بالتعليم والتربية الدينية. وتأتى أخيرًا العلاقات بالعالم والتى تزداد سوءًا، والمسئولُ عنها ليس الأزهر بالتحديد أو المؤسسات الدينية المشابهة، بل الجميع وبينهم السلطات والمثقفون والإعلاميون.
لذلك أودُّ التركيز على واجبات المؤسسات الدينية بمقتضى الاحتراف، ومقتضى المهمات، وأولًا وأخيرًا بمقتضى كونها الأكثر مسئوليةً عن الدين سلامةً وسكينةً واستتبابًا. وهكذا فينبغى الخروج من العقلية الوظيفية إلى الرسالة وعقلية المهمات، بحيث تتغير الذهنية، وتتغير أخلاق العمل. إنما كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ بالإحساس بالضرورة للدين وللمجتمعات والدول. ومن يعجز عن ذلك يكون عليه ترك الأمر، وسيكسب أكثر فى الأعمال الأُخرى.
ولندخل فى الشرط الثانى وهو شرطُ التأهُّل للقيام بالمهمات، فالعالم تغير كثيرًا، ولا يكفى تعلم العلم الشرعى العادى، بل لا بد من معرفة كيف يفكر الصحويون-أهل الاسلام السياسى- وغير الصحويين، ووسائل التصدى والإقدام.
أما الشرط الثالث فهو شرطُ التأهيل، بمعنى أنّ لدينا مهمات يكون علينا لأدائها الحماس والإيمان والتأهل. أما وقد تأهلْنا فعلينا الاتجاه لتأهيل الآخرين بشتى الوسائل، وليس فى الدراسة أو من على المنابر وحسْب.
لقد كانت العقبات فى العمل كثيرة، ولأسبابٍ متعددة. بيد أنّ الحاجات هائلة الآن، والتضامن والعمل معًا مطلوب. وفى المدة الأخيرة، كثيرًا ما استشهد بحديث السفينة للنبى صلى الله عليه وسلم، والذى جاء فيه أنّ قومًا ركبوا سفينةً ذات طبقتين، فأصاب بعضهم أسفلها، فكانوا إذا أرادوا أن يستقوا من الماء مروا على مَنْ فوقهم فقالوا: لو أنّا خرقنا فى نصيبنا خرقًا ولم نؤذٍ مَنْ فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا. نحن أهل السفينة الواحدة والمركب الواحد، والوقت ليس وقت تلاومٍ ومنافرات، فلنعمل معًا لننجو جميعًا.
نقلا عن الاتحاد الإماراتية