رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

من التاريخ إلى فلسفة التاريخ

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لكن ما الصلة بين «التاريخ» و«فلسفة التاريخ»؟ هذا السؤال المهم كان مثاراً لكثير من المناقشات والمنازعات. فعلماء «التاريخ» يرفضون كل فلسفة تفرض قوانينها على «التاريخ»، وفلاسفة «التاريخ» يبحثون دائمًا عن القوانين الكلية والعامة التى يخضع لها «تاريخ» الإنسانية على مر العصور وفى مختلف البلدان. وإذا نظرنا إلى «العلم الطبيعى»، فإننا نجد أن قانون الجاذبية الأرضية هو قانون كلى، ينطبق على جميع الأجسام التى تسقط على الأرض؛ فهل يستطيع المؤرخ أن يضع القوانين التى لها هذه الدرجة من العمومية والشمول؟
لا شك أن «التاريخ» فى حاجة إلى الكشف عن العلاقات الضرورية بين الوقائع التاريخية، وهذه الضرورة تفترض ثـمَّة درجة من العمومية والشمول. ويسلم المؤرخون بوجود أسباب عامة -طبيعية وبشرية- تؤثر فى سير الأحداث، فتدفع إلى التقدم أحيانًا، وإلى التأخر فى أحيان أخرى. ولا يمنع ذلك الاعتقاد، من حدوث ما لم يكن فى الحسبان: فتكون نتيجة المعركة مثلاً غير متوقعة، أو يحدث التدهور الاقتصادى بصورة مفاجئة، أو يسقط نظام الحكم نتيجة انقلاب ما.... إلخ، ولكن حتى فى هذه الحالات يصر بعض علماء «التاريخ» على وجود قوانين عامة تخضع لها هذه الأحداث التى تبدو فى ظاهرها وليدة المصادفة.
وحين نتحدث عن «فلسفة» لــ «التاريخ»، نقصد «تاريخ» الإنسان؛ لأنه الكائن الواعى الوحيد بين الموجودات. 
لكن ما الفرق بين «الفيلسوف» و«المؤرخ»، الحقيقة التى تسترعى الانتباه ليست هى الماضى فى حد ذاته عند «الفيلسوف»، كما هى الحال بالنسبة لـ «المؤرخ»، ولا هى التفكير فى هذا الماضى (بمعزل عن موضوع التفكير) كما هى الحال بالنسبة لعالم النفس؛ وإنما هى الاثنان فى إطار علاقاتهما المتبادلة. نريد أن نقول، إن التفكير فى علاقته بـ «موضوعه» لا يُعد من قبيل التفكير المجرد، وإنما يُعد من قبيل المعرفة. معنى هذا أن الذى نسميه من وجهة علم النفس نظرية لــ «التفكير المجرد» أو نظرية للصور الذهنية بمعزل عن الأشياء المادية، يصبح من وجهة نظر «الفيلسوف» نظرية لـ «المعرفة». فعندما يسأل عالم النفس نفسه: كيف يفكر المؤرخون؟ يسأل «الفيلسوف» نفسه: ما طريق المؤرخين إلى المعرفة؟ ما طريقهم إلى معرفة الماضى؟ ونجد على العكس من ذلك إن مهمة المؤرخ -لا مهمة الفيلسوف- هى أن يدرك الماضى بو صفه شيئًا قائمًا بذاته، كأن يقول على سبيل المثال، إن أحداثًا هى كذا وكذا حدثت منذ سنين عدة، و«الفيلسوف» يعنى بهذه الأحداث، لا بوصفها أحداثًا لها كيانها الخاص، ولكن بوصفها أحداثًا يعرفها المؤرخ. ثم هو يتساءل عن الأسس التى تستند إليها معرفة المؤرخين بهذه الحوادث، بصرف النظر عن أى نوع من أنواع الحوادث هذه، ومتى حدثت بالفعل وأين».
من هذا المنطلق، يمكن القول إن لمصطلح «فلسفة التاريخ» معانىٍ ثلاثة رئيسية: المعنى الأول، هو أن «فلسفة التاريخ» تهتم بالقوى الأساسية للتاريخ بوصفه حقيقة موضوعية (هى الماضى). والمعنى الثانى، هو أن «فلسفة التاريخ» تصف لنا النظرة العامة الأساسية التى يأتى بها المؤرخ، متضمنة النظريات الخاصة بتعليل الحوادث أو مفهوم التقدم وما إلى ذلك. والمعنى الثالث والأخير، هو معنى مرادف على وجه التقريب لــ«المنهج التاريخى» Historical Method، أى العملية الفعلية التى يسلك المؤرخ فى شعابها.
والخلاصة هى، أن مصطلح «فلسفة التاريخ» له جاذبية كبيرة على العقول، حتى إن البعض يرى أنه علمًا قائمًا بذاته، أو فرعًا من فروع الدراسة التاريخية. ذلك لأن تعليل الحوادث ومحاولة البحث عن أسبابها المباشرة وغير المباشرة، والاجتهاد فى استخراج الأسباب والأحكام العامة؛ كل هذه تدخل فى صميم «الفلسفة» ذاتها. لكن البعض الآخر يرى أن الفرق بين طبيعة علم «التاريخ»، وطبيعة مباحث «الفلسفة» جسيم، فالفيلسوف فيلسوف بالطبع -أو الاتجاه- وأسلوب الفكر وطريقة النظر والاستدلال، والمؤرخ مؤرخ بطريقته ومنهجه والغايات التى يرمى إليها من وراء ما يكتب من «التاريخ». والمؤرخ الحق -من هذه الوجهة من النظر- يجتهد فى السير فى حدود علم «التاريخ» والتزام منهجه بأمانة، ولهذا فإن كبار من اتفق على تسميتهم فلاسفة «التاريخ» كانوا يرون أنفسهم مؤرخين فحسب، و«أرنولد توينبى» الذى يُعد من أكبر فلاسفة «التاريخ» كان يسمى نفسه مؤرخًا فحسب.