كما أن الحرب من الأهمية بحيث ينبغى ألا تُتْرَك للقادة العسكريين وحدهم، فإن العلم والتكنولوجيا من الأهمية بحيث يجب ألا يتركا للعلماء والفنيين وحدهم، وإذا كان المواطنون فى المجتمعات الديمقراطية يشاركون فى صنع السياسة العامة للدولة التى تتعلق بالسلم والحرب وسيادة القانون والمساواة والعدالة الاجتماعية.. إلخ. إذا كان ذلك كذلك، فليس هناك ما يبرر إبعاد الناس عن المشاركة وعلى نحو مشابه فى صياغة النتائج المترتبة على التقدم العلمى والتكنولوجى.
ليس الناس فى حاجة إلى خلفية علمية ليدركوا تأثير العلم على حياتهم، فنحن نرى غالبية الرؤساء ورجال البرلمان غير متخصصي تكنولوجيا، ومع ذلك تقع على كاهلهم مسئولية اتخاذ قرارات حاسمة لا تتعلق فحسب بشئون الحاضر، وإنما تتعلق أيضًا بتحديد مصير الملايين من البشر مستقبلاً. إن افتقار المواطنين لما يُسمى بالثقافة العلمية، ليس مبررًا كافيًا لحرمانهم من المشاركة فى صنع القرارات المتعلقة بالنتائج المترتبة على التطور العلمى بوصفهم - على الأقل - ناخبين أو مستثمرين أو حتى مستهلكين. إن العلم لا يشير علينا بما ينبغى عمله بالمعلومات التى يتشكل ذلك العلم منها، العلم يوفر لنا السيارة والسائق دون أن يشير علينا فى أى اتجاه نسير، هذه السيارة وهذا السائق قد يقذفان بنا فى حفرة أو يجعلاننا نصطدم بجدار، كما أنهما قد يوصلاننا، بالفعالية ذاتها، إلى بر الأمان الذى نتمناه، إذن علينا أن نخبر السائق بالوجهة التى نعتزم التوجه إليها، وبإمكانه عندئذ أن يوصلنا إليها سالكًا فى سبيل ذلك واحدًا من عدة سبل لكل منها تبعات وشروط ينبغى على العالِم أن يتمكن من شرحها لنا. حين نتحدث عن طريقة توجيه حياة الإنسان وتنظيم مجتمعه، نخوض مجال القيم والغايات الإنسانية، وهو مجال يهم البشر جميعا، لا العلماء وحدهم. وفى مثل هذا المجال يكون من الصعب على العالِم أن يقدم إلينا توجيهًا كاملاً، لأن تكوينه يحول بينه وبين التعمق فى أمور معنوية شديدة العمومية كتحديد الأهداف التى ينبغى أن يُسْـتَغل العلم من أجلها. ففى عصر التخصص المتزايد، يصعب أن نجد العالِم الذى يستطيع تخصيص الوقت والجهد الكافيين للتفكير فى الأوضاع الإنسانية بصورة كلية وشاملة.
يختلف العلم فى جوهره إذن عن الأخلاق، فإذا كان العلم يبحث فيما هو كائن فإن الأخلاق تبحث فيما ينبغى أن يكون، وإذا كانت مهمة الأخلاق هداية السلوك، فإن مهمة العلم هى تفسير الكون، ومن ثم فليس من مهمة العلم أن يحكم على هذا الشىء أو ذاك بما إذا كان خيرًا أو شراً. وإذن فتحديد الأهداف التى ينبغى أن يخدمها العلم هو أمر أوسع وأرحب من أن يُتْرَك للعلماء المتخصصين، وأسمى من أن يترك للسياسيين المحترفين، وإنما الواجب أن يشارك فيه المفكرون والأدباء والفنانون والفلاسفة، وكل من يهمه مصير الإنسانية ويفكر فى هذا المصير بنزاهة وتجرد.
وبقدر ما يشعر المرء بالغبطة والفرحة حين يشاهد النمو المطرد فى البحوث العلمية وتطبيقاتها العملية، وعلى وجه الخصوص الكشوف الجديدة فى مجالات البيولوجيا، يشعر أيضًا بالخوف والجزع من جراء الاحتمالات المخيفة التى تثيرها هذه الكشوف، وبخاصة إذا تصورنا أن هذه الاحتمالات قد تحققت فى إطار التنظيمات الحالية للمجتمعات البشرية. ففى يد من سيُترك هذا التحكم فى حياة الإنسان وفى خصائصه الوراثية؟ وما الأهداف التى ينبغى أن تراعى فى إدخال هذه التعديلات الخطيرة، ومَنْ الذى سيحدد هذه الأهداف؟ بل إن السؤال الذى يسبق هذه الأسئلة، هو: هل يجوز التفكير أصلًا فى تعديل قدرات الإنسان، وإلى أى مدى يُعَدْ مثل هذا التدخل أمرًا مشروعاً؟ وهل يكون من حقنا أن نتخذ من الإنسان، وهو أرفع الكائنات مكانةً، موضوعًا للتجارب، وللتشكيل المتعمَد فى المختبرات؟
إن هذه القدرة الهائلة على التحكم فى الطبيعة البشرية يمكن أن تهدد حرية الإنسان ووجوده فى المستقبل، ذلك لأنها تسعى إلى السيطرة على موروثات الإنسان والتحكم فيها، مما يعنى أنها ستسيطر على إرادته وقد تهدد استقلاله. لذلك يجب أن يعدنا العلماء بألا يُعَرِّضوا الآخرين للخطر. فهل يمكن ذلك؟ إن المعرفة قوة، يمكن استخدامها استخدامًا جيدًا أو سيئاً. وطالما أن «المارد» الذى يجلب المعرفة الجديدة قد خرج من القمقم، فلا بد أن نتعلم كيف نوجـه قوته بدلًا من أن نلغيه أو نحاول أن نعيده إلى القمقـم.
ولا بد أن نضع فى اعتبارنا أن عودة «المارد» إلى تلك الزجاجة أمر مستحيل، لذلك نحن بحاجة إلى خلق نوع من التوازن بين فكر الإنسان الفرد الذى قد يتجه بقصوره وجهة أحادية أنانية، وبين فكر المجتمع الذى ينبغى أن يتجه، على العكس، وجهة جماعية شاملة. من هنا فإن مسئولية الدولة، وهى أداة التوفيق بين حقوق الفرد ومتطلبات المجتمع، أن توجه استخدامات أساليب التقنية الحيوية Biotechnology بما يخدم الغاية من وجودها. إن تحقيق هذا المطلب يقتضى جمع أصحاب الفكر المتعقل، فى مجال علوم الحياة بكل فروعها، وميدان العلوم الاجتماعية كالفلسفة والدين والقانون فى إطار تنظيمى يستهدف التمييز بين ما هو فى صالح الجنس البشرى وما هو مجهول العاقبة، بين ما هو حسن مقبول وما هو قبيح مرفوض، وبعبارة موجزة فإن المجتمع، الذى يريد أن يجمع بين أسباب السعادة المادية والأدبية لأفراده، سيدفع أدواته التنظيمية كالدولة والهيئات المعترف بها إلى عرض مكتسبات التقنية الحيوية على مصفاة القيم الاجتماعية الراسخة لتأخذ منها ما يحفظ على المجتمع توازنه وعلى الفرد حياته وحرياته، ثم يأتى بعد ذلك دور التشريع القانونى ليطور بها المجتمع باطمئنان قواعده القانونية القائمة، بما يكفل فى النهاية تقدم حقوق الإنسان نحو الأفضل بمحاذاة التقدم العلمى والتقنى. لا مفر إذن للفلسفة من التصدى لموضوع القيم ودراسته، بل إن الفلسفة بطبيعة موضوعاتها، أو منهجها، وغايتها يحتويها كلها إطار معيارى يغلب عليه طابع القيم. فهى نظرة كلية شاملة تحيط بكل جوانب الفاعلية الإنسانية. والفلسفة أكثر التصاقًا بالواقع، رغم أن البعض يعتقد – خطأ – أنها تحلق بعيدًا عن الواقع، ومن ثمَّ لا غناء عن الفلسفة لكل إنسان سواء اختار فلسفته عن وعى أو لا وعي، فلا مهرب من الالتزام بفلسفة ما إزاء مواقف الحياة التى يواجهها الإنسان كل لحظة، وبالتالى نحن أحوج ما نكون إلى التحليل المنطقى حتى يتسنى لنا إقامة نوع من التوازن بين القيم الأخلاقية والتطورات العلمية الجديدة، من أجل تغيير نظام قيمنا، وتحليل المشكلات الأخلاقية التى تواجهنا – بسبب الهوة الواسعة بين فكر الإنسان والتكنولوجيا. لا بد من الانتباه إلى الدور الإيجابى الذى يمكن أن يلعبه الفيلسوف فى حل أهم المشكلات التى تواجهنا، وهى مشكلات لا تستطيع التكنولوجيا بكل تطورها أن تصل إلى حلها. ذلك لأن المواقف التى تهتم الفلسفة بتحليلها ما هى إلا موضوعات تخرج عن نطاق العلم بمعناه التجريبى الضيق. فالعالِم لا يدرس أفكارًا ولا قيما، وإنما يدرس مادة جامدة كالكيمياء والفيزياء، أو حية كالنبات والحيوان.. إلخ، ولذلك لا يمتلك القدرة على إدراك الجوانب الفلسفية والأخلاقية التى تثيرها مثل هذه الموضوعات. يبقى أن نقول إن الأخلاق إنما وُجِدَت من أجل الإنسان لا أن الإنسان قد وُجِدَ من أجلها، فالأخلاق هى مجمل قواعد السلوك التى وجد الإنسان أنها كانت فى صالحه عبر العصور، وجود القيم مرتبط إذن بالوجود الإنساني، فإذا زالت الأشياء وانعدم الأشخاص، زالت القيم وانعدمت، حتى عملية تفضيل بعض القيم على الأخرى لا معنى لها إلا بالنسبة لأفراد الجنس البشرى. من ناحية أخرى يمكننا القول إن العلم قوة عمياء يمكن توظيفها لخدمة البشر، كما يمكن – وبنفس القدر – توجيهها لتدمير العالَم والإنسان، تمامًا كعود الثقاب: فى وسعنا أن نضىء به شمعة تنير لنا الطريق، وفى مقدورنا أن نُشْعِل به حريقًا يدمر حياتنا. العلم إذن ليس خيرًا أو شرًا فى ذاته. ومن هنا فهو أحوج ما يكون إلى قيم إنسانية رفيعة تقوده نحو خير الإنسان ورفاهيته، ففى غياب مثل هذه القيم يندثر الإنسان والأفكار والعلم جميعا. اقتباس: يختلف العلم فى جوهره إذن عن الأخلاق، فإذا كان العلم يبحث فيما هو كائن فإن الأخلاق تبحث فيما ينبغى أن يكون، وإذا كانت مهمة الأخلاق هداية السلوك، فإن مهمة العلم هى تفسير الكون، ومن ثم فليس من مهمة العلم أن يحكم على هذا الشىء أو ذاك بما إذا كان خيرًا أو شرا.