حصل أستاذ الجيلين الرائد المفكر عبدالله العروى على جائزة الشيخ زايد لعام ٢٠١٧ فى القسم المميز منها، «شخصية العام الثقافية». وقد سميتُه أستاذ الجيلين لأنّ المصريين كانوا يسمون أحمد لطفى السيد، الشخصية الفكرية والليبرالية المعروفة فيما بين العشرينيات والخمسينيات من القرن العشرين، أستاذ الجيل، ويقصدون بذلك ريادته إلى جانب محمد حسين هيكل وطه حسين وآخرين فى التعريف بالفكر الليبرالى والنهضوى الأوروبى فى تلك الحقبة. وما كان عنده تلاميذ كثيرون لأنه ما درّس طويلًا بالجامعة الوطنية المصرية. أما العروى فهو أستاذ الجيلين: جيل الزملاء، وجيل التلامذة (من السبعينيات وإلى مشارف القرن الـ٢١).
لقد عرفناه جميعًا فى كتابيه الأولين: «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» (١٩٧٠)، و«العرب والفكر التاريخي» (١٩٧٣). وقد كتب كثيرون ومنذ سبعينيات القرن الماضى عن هيغليته، وعن المفاهيم التى تحكم مقارباته، خاصة مسألة الفوات التاريخى. أما أنا، وقد كنتُ أُتابع دراساتى العليا بجامعة توبنغن بجمهورية ألمانيا الاتحادية، فقد لفتنى فى كتاباته أمران: النزوع لمقاربة الحالة أو الموقف من خلال الفهم أو التعقل، والنزوع للتحديد المفهومى من أجل النمذجة، وبالتالى التعددية والشمول. وهاتان الخاصيتان كنتُ أتعلمهما وقتها عن ماكس فيبر (١٨٦٤-١٩٢٠) السوسيولوجى الألمانى الكبير، والذى لم يكن هيغليًا بالطبع. وعلى أى حال، ومنذ ذلك الحين وإلى اليوم، تمايز العروى فى تفكيرى واعتبارى هو وهشام جعيط عن الجابرى وأركون وآخرين من عشاق الفهم المباشر لقطائع فوكو وفصامياته، وذلك رغم مسألة «الفوات التاريخي» التى غادرها العروى على تردد منذ أواخر الثمانينيات.
لقد سيطر هذان النزوعان فى المنهج الذى اصطنعه العروى، والذى بدت تباشِيره فى أُطروحته للدكتوراه عن جذور الوطنية المغربية. ولذلك المنهج مدخلان: التاريخ والأيديولوجيا أو الوعى التاريخى، وأنا أفضّل تعبير: الوعى بالتاريخ، ولأنّ العروى صاحب منزعٍ نظريٍّ تنظيرى كما سبق القول، فإنّ هذين الأمرين ما ظلاّ مستترين فى أعماله. فبعد فرضية تاريخية الوطنية المغربية، ألّف: «العرب والفكر التاريخي»، ثم «مفهوم الأيديولوجيا» (١٩٨٠)، و«ثقافتنا فى منظور التاريخ» (١٩٨٣)، وعاد إلى «مفهوم التاريخ» (١٩٩٢). وإلى هذه المتابعة الدؤوب للوعى بالتاريخ، ومن المدخل ذاته، عمل على الوعى بالدولة. فبعد «الوطنية المغربية»، كان لديه «مفهوم الحرية» (١٩٨١)، و«مفهوم الدولة» (١٩٨١)، و«مفهوم العقل» (١٩٩٦)، وكلها أعمالٌ فى التفكير بالدولة فى الفلسفة والنظرية، فى المجال الأوروبى الحديث، ومجالنا التاريخى والحديث.
ليس بوسع الكاتب الحقيقى والجادّ أن يقلّد أحدا. لكنى أزعُمُ أننى حاولتُ دائمًا الاستعانة بفكر العروى منذ بدأتُ الكتابة المفهومية والتنظيرية فى أواسط ثمانينيات القرن الماضى. ورغم كتاباته الكثيرة عن الدولة فى المجال العربى الإسلامى، ما عرفْتُ إلاّ متأخرًا أنه حصل على شهادة التبريز فى الإسلاميات عام ١٩٦٣. وقد جرؤتُ فى كتابى الأول: «الأمة والجماعة والسلطة» (١٩٨٤) أن أعنون أحد فصوله بـ «العقل والدولة». ولأنّ فتنتى بالعروى استمرت وتطاولت فقد قمت فى كتابى النظرى الثاني: «الجماعة والمجتمع والدولة» (١٩٩٧) بمحاولة لنمذجة المفاهيم الدائرة حول الدولة والتفكير بها، شأن العروى فى الكثير من كتاباته. وبالطبع، ورغم التوافق فى المقدمات المنهجية، فإنّ المفهوم المركزى لديّ للتفكير بالدولة فى مجالنا الحضارى الوسيط، هو الجماعة، بينما يماهى العروى – شأن هيغل- بين العقل والدولة باعتبارها أعلى تجلياته. وعلى ريادة العروى فى اجتراح مفاهيم وأولويات صارت بالفعل هى اهتمامات وأولويات سائر المفكرين العرب المعتبرين، فإنه ظلَّ (ومعه جعيط) الأكثر مرونةً وتطورًا وتطويرًا حتى فى أساسيات منهجه. ويبدو ذلك فى كتابه الطريف «السنة والإصلاح» (٢٠٠٩)، وجزئه «من ديوان السياسية» (٢٠٠٩). فقد اعتبر معظم المفكرين المُحدَثين العرب «السُنَنية» رأس الرذائل فى نفسية العرب وتاريخهم وحاضرهم. بينما كان العروى مستعدًا لمراجعة نفسه وكتاباته فى الكتابين الأخيرين، واللذين حاول فيهما أن يكون بسيطًا ومباشراً، وهما ليسا كذلك. وفى شخصية العروى الفكرية غنىً وعدد مشهودان. فهو منذ البداية يكتب الرواية إضافةً للسيرة الذاتية. وقد أعجبتنى قبل سنوات ترجمته: «تأملات فى تاريخ الرومان، أسباب النهوض والانحطاط» لمونتسكيو (٢٠١١). وقد قلت قبل سنوات لجعيط مازحا، ونحن نتقارض الثناء على العروي: لكنه تفوق عليك فى كتابة الرواية! فضحك وقال: ليتنى أستطيع تقليده فى ذلك أيضا!
جائزة الشيخ زايد لشخصية العام الثقافية لائقةٌ بالعروى، وهى شهادةٌ لها وللقائمين عليها. وأنا أنتظرها لأستاذنا الآخر الدكتور هشام جعيط.
نقلا عن الاتحاد الإماراتية