لا شك أن مفهوم «الدولة المدنية الحديثة» يجد كثيرًا من تطبيقاته فيما يجرى على الساحة الدولية من تفاعلات، فيما يكشف عن تباين مواقع الدول على خريطة «الديمقراطية»، كأساس لا يمكن أن يغيب إلى جانب قيم العلمانية والمواطنة، كركائز حتمية فى سبيل بناء «الدولة المدنية الحديثة».
فى هذا السياق، ينبغى أن نبلور رؤية متكاملة لحقيقة العلاقات العربية العربية، وما يعتريها من مشكلات لطالما وقفت عائقًا أمام جهود التنمية على الأرض العربية، واستبدلت الطموحات العربية بكثير من عوامل الفرقة بين الشعوب العربية، على ما بينها من روابط تاريخية.
وقد تصلح العلاقات المصرية السعودية لتكون نموذجًا يمكن القياس عليه فى هذا الشأن. وهنا يمكن رصد مجموعة من الملاحظات على النحو التالي:
إلى جانب العوامل العديدة المشتركة بين الدول العربية؛ فإن التقارب الجغرافى بين مصر والسعودية أفاض فى تهيئة الكثير من الملفات المشتركة بين البلدين، وهو أمر له صداه فى العلاقات بين كثير من الدول العربية المتجاورة، فيما يبنى خصوصية تاريخية لا يمكن الفكاك من آثارها وتبعاتها. يحدث ذلك بين لبنان وسوريا، وفلسطين ومصر والأردن، ومصر والسودان، ومصر وليبيا، وكذلك بين دول المغرب العربى.
ولعل «موقعة» تيران وصنافير من روافد هذا التوصيف لحقيقة المشكلات النابعة من سيولة الكثير من الملامح الحدودية بين الدول العربية، كنموذج للمشكلات «المسكوت عنها»، بوصفها من مخلفات فترة الاستعمار. فيما شكل عثرات سياسية لجهود التنمية المشتركة بين الدول العربية المجاورة، رغم ما يتيحه الجوار الجغرافى من فرص متعاظمة لتكامل المجتمعات، وترسيخ أواصر القيم المجتمعية المشتركة.
وليس لنا أن نهمل فى تقييم خطورة ما تعرضت له العلاقات المصرية السعودية فى الفترة الأخيرة من منعطفات كانت تنذر بتوترات يصعب معها حماية الأمن القومى العربى. غير أن حكمة القيادة السياسية على الجانبين أكدت أن إدراكًا أفضل بات حقيقة مرئية لمستجدات الأوضاع فى المنطقة، فى ظل ما يدور إقليميًا من إعادة ترتيب أوضاع المنطقة، وفك وتركيب الكثير من التحالفات بغرض تغيير المعادلات المُنشئة لتوازنات القوى الإقليمية.
وإجمالًا فى الشأن العربى، أتصور أن إهمالًا ينال من قدرتنا على صياغة استراتيجية عربية تستجمع جميع مكونات الأمة العربية. إذ نفرط دائمًا فى الحديث عن مصر والسعودية باعتبارهما جناحا الأمة العربية، على حساب تراجع اعتبار دول المغرب العربى فى منظومة القوة العربية. وليس أدل على ذلك من الغياب المستمر للمغرب عن القمم العربية، وابتعاد الجزائر وتونس وموريتانيا عن مشاركة فعالة فيما يدور فى المشرق العربى من صدامات حادة، بعضها مسلح، والآخر ما زال يحتفظ بوجهه السياسى. والأمر على هذا النحو يؤكد صعوبة إدراكنا لمقتضيات «العمل المشترك»، وهى صورة مُكبرة لغياب مفهوم «المشاركة السياسية» داخل الحدود الوطنية فى الدول العربية. فيما يعبر عن تراجع مفهوم «الدولة المدنية الحديثة» عن التطبيق الجاد عربيًا.
والواقع أن نظرة شاملة لخريطة الأمة العربية، تدلنا على وجود مجموعات متفرقة من الكيانات الأصغر، تسعى إلى العمل بشكل يبتعد عن جوهر العمل العربى المشترك، فيما يشير إلى أن جامعة الدول العربية لم تنجح فى التعبير عن الطموحات العربية التى من أجلها أُنشئت. فراحت دول الخليج تتحوط بسياج «مجلس التعاون الخليجي»، وعلى شاكلتها باستحياء كان الاتحاد المغاربى، بينما تفرقت بقية الدول العربية بحثًا عن مصالح تائهة لا تجد لها عنوانًا مؤكدًا. فيما يؤكد تزايد الحاجة إلى قيم سياسية مشتركة، قطعًا ليس إلا «الدولة المدنية الحديثة» يمكن أن تعبر عنها بكفاءة.
السياسة الخارجية تصنع فى الداخل، وهى تعبير حقيقى عن المنهج المتبع فى إدارة شئون الدولة فى الداخل. وعليه، فإن فقد القدرة على تحمل تبعات «المشاركة السياسية» فى الداخل، لها وجه فى السياسة الخارجية ملامحه تؤكد الانغلاق، وعدم القدرة على فتح مسالك حقيقية داخل تشابكات العلاقات الدولية. من هنا فإن البقاء داخل فكرة أن مصر والسعودية ركيزتا الأمة العربية، كبديل عن تكامل عربى شامل، فيه تخفيف لثقل المسئولية القومية المنوط بها حماية الأمن القومى العربى. فلست أتصور أن استراتيجية عربية لمجابهة الإرهاب يمكن أن تنجح دون مشاركة فعالة من مكونات الأمة العربية كافة، بل وعلى قدم المساواة فى الاعتبار السياسى، بما يزيل الكثير من أوجه الحساسية الناتجة عن شعور ينتاب بعض الدول العربية بأن لا حاجة عربية لها إلا إن هى خضعت للقيادة المصرية السعودية لمنظومة العمل العربى المشترك. وشىء من ذلك علينا أن نعترف أنه أطاح بعيدًا بفكرة القوة العربية المشتركة. كما أن العمل العربى المشترك إذا ما ظل حبيس العلاقات الثنائية؛ فإنه يسحب بالفعل من شرعية «جامعة الدول العربية» من الأساس، ولا يهيئ سُبلًا كافية لجهد عربى مشترك حقيقى وجاد يمكن أن ينهض بمسئولياته القومية على وجه صحيح.
من جهة أخرى، بات ضروريًا أن نتعلم من الدروس السابقة التى أفرزت عقبات فى طريق تنمية وتوطيد العلاقات المصرية السعودية. من ذلك أن خفضًا حقيقيًا ينبغى أن ينال من سقف الطموحات، بما يجعل من رؤيتنا أقرب إلى الواقع. فلا مبالغات تبتعد بالرأى العام عن حقيقة الإمكانات المتاحة للتعاون المشترك بين البلدين، ولا تهوين يمكن أن يخفف من المحددات الحاكمة للعلاقات بين البلدين، خاصة فى شقها الاقتصادى. فلا منح أو مساعدات اقتصادية سعودية علينا أن نتوقع تدفقها دومًا، وإنما استثمارات مُربحة للطرفين، مع كل الاعتبار للاستثمار فى الأمن القومى العربى على الأرض المصرية تحديدًا، خاصة فى الفترة الحرجة الراهنة التى تعيشها مصر. من هنا علينا أن نكف من ضغطنا على الرأى العام على نحو ما فعلت أقلام وأصوات شتى طالبت السعودية بسحب استثماراتها الضخمة من الولايات المتحدة، وإدخالها إلى السوق المصرية على وجه السرعة! بعد صدور القانون الأمريكى الذى يهدد برفع قضايا تعويضات ضد الحكومة السعودية! فواقع الأمر أن الأمور ليست بهذه البساطة، وطرح مثل هذه الأفكار «الركيكة» من شأنه أن يبتعد بالرأى العام إلى آفاق وهمية قطعًا سنسقط من عليائها فجأة مع أى خلاف بين البلدين، فنرتد خلفًا بصدمة شديدة تتجه بنا إلى تغذية العلاقات بين البلدين بالمشاعر دون الحقائق، وبالآمال دون أسبابها. لاحظ التفاوت الهائل بين الشعور العام إبان زيارة الملك سلمان لمصر، وما حدث من هبوط سريع ومفاجئ بعد «موقعة» تيران وصنافير الوهمية!
على هذا النحو تعانى العلاقات العربية العربية جراء تفاوت كبير نلحظه فى المحتوى الوطنى، لكل دولة، من ركائز «الدولة المدنية الحديثة»، مثلما تنعكس إشكاليات الداخل على مسارات العلاقات الخارجية. وربما يدفعنا ذلك إلى البحث فى المشهد الوطنى وموقفه من ركائز «الدولة المدنية الحديثة»، فإلى الأسبوع المقبل بإذن الله.