إن العالم اليوم، فى الواقع، لا يزال مقسمًا إلى وحدات سياسية عنصرها الرئيسى الدول.. دول غير متجانسة، ولكنها تتقاسم مع بعضها بعض مصالح مشتركة.
إن الدول تعانى، أكثر من أى وقت مضى، وبشكل متزايد، عجزًا كبيرًا يتمثل فى أن الحكومات، من بين جميع المنظمات الأخرى، صارت أقل قدرة وأكثر تباطؤًا على التوافق مع متغيرات البيئة المحيطة.
بيد أن سرعة عجلة التاريخ أضحت أمرًا واقعًا، فكل شيء أصبح يوحى بأن التحول العلمى وبالأحرى التكنولوجى، سيواصل تقدمه مع وجود بعض المؤثرات الضخمة التى ستشهدها المجتمعات البشرية فى المستقبل.
وفى مثل هذه الظروف، فإن الصعوبات التى تواجهها الحكومات فى التأقلم مع هذه الأوضاع، سواء فيما يتعلق بالشئون الداخلية للدول، أو بشان إدارة العلاقات بين الدول بعضها ببعض، تحولت لنوع من العجز الجوهرى، قد يمثل فى حد ذاته مصدرًا رئيسيًا للتقلبات، إن لم يكن مصدرًا للخطر على البشرية فى القرن الحادى والعشرين.
إن تقسيم المؤرخين للحقب التاريخية ينبع من نظرة رجعية من حيث التعريف، لا تشبع نهم من يسعى لفهم طبيعة ما يحدث فى عصرنا الحالى، بيد أن العشرين عامًا المنصرمة، التى تبدأ، فيما يبدو لى، من سقوط حائط برلين حتى الألعاب الأوليمبية فى بكين، تمثل حقبة انتقالية فاصلة بشكل كبير فى السياسة العالمية.. فلنتفق إذن على أن القرن العشرين قد انتهى عام ١٩٨٩، وأن عام ٢٠٠٨ هو بداية للقرن الحادى والعشرين.
ومن ثم يعالج المفكر السياسى الفرنسى البارز تييرى دو مونبريال، مدير المركز الفرنسى للتحليلات والتوقعات التابع لوزارة الخارجية الفرنسية، فى كتابه الضخم بعنوان «عشرون عامًا قلبت موازين العالم» والذى نقلته من الفرنسية إلى العربية داليا الطوخى وأمل الصبان والصادر عن المركز القومى للترجمة ٢٠١٦.
إن موضوع الكتاب، ومضمونه المتميز، يعد إحياءً لتطور العالم منذ تفكك أنظمة الدول التابعة لحلف وارسو، فليس المقصود هو تتبع الأحداث وإبراز ما بينها من روابط فحسب، بل وإعادة بلورة لكيفية تطور رؤية مشكلات العالم خلال هذه الحقبة التى شهدت تغيرات متلاحقة.
كيف انتقل العالم من النشوة عقب سقوط حائط برلين، إلى هذه الحالة المزاجية المتقلبة التى تتسم بها بداية القرن الحادى والعشرين؟
ففى بداية عام ١٩٩٨، كان النظام الدولى ثنائى القطب، فقد كنا نستطيع تمييز عالم أول وعالم ثانٍ، يحيط بهما عالم ثالث يتسم بالضخامة. وكانت الدول الغربية والاتحاد السوفيتى تتبع العالم الأول، والصين العالم الثانى أما الهند فقد كانت تابعة للعالم الثالث. وكانت الثورة التكنولوجية تسير على قدم وساق، ولكنها لم تكن قد أصابت بعد قلب الأنشطة الاقتصادية والسياسية. فى الحقيقة، لم يكن أحد يتحدث فى ذلك الوقت عن العولمة، كما أن تدويل الجريمة والإرهاب لم يكن على رأس اهتمامات العالم.
وفى منتصف عام ٢٠٠٨، أصبحت التنافسية بين الدول الناضجة والناشئة هى المسيطرة على الساحة الدولية، وتحققت بالفعل النبوءة القديمة عن صعود قارة آسيا، وتخطى الترابط بين دول حاجز الكم، وأصبحت الدول، لا سيما تلك التى تعانى صراعًا على المصالح والقيم، تواجه معارضة ثورية ظهر مدى اتساعها عقب اعتداءات الحادى عشر من سبتمبر ٢٠٠١.
لقد تم إنشاء حلف شمال الأطلنطى للعمل على توازن القوى مع الاتحاد السوفيتى نفسه، ولسوف تستمر الضرورة السياسية والإقليمية لوجوده حتى إن خرجت الصواريخ السوفيتية الحالية عن مسارها، فأصبحت غير صالحة فى العمليات العسكرية. وفى المقابل إذا صح هذا الافتراض فقد يكون بالإمكان تحقيق تحول جذرى فى الاستراتيجية والمعدات العسكرية لحلف الأطلنطى.
لقد نوه الكرملين، إلى تخليه عن عقيدة بريجينيف المتعلقة بالسيادة المحدودة.. بمعنى أن الاتحاد السوفيتى لن يتدخل عسكريًا مطلقًا فى «الدول الشقيقة».. فإذا كان لهذه الكلمات معنى واضح، فهذا يتطلب عدم منع موسكو لأى دولة تابعة لها فى الوقت الحالى إذا كانت ترغب بالفعل فى أن تكون على الحياد، كما أن على الولايات المتحدة أيضًا ألا تتصدى بالسلاح لألمانيا الاتحادية أو لإيطاليا إذا رغبت إحداهما فى الخروج من حلف الأطلنطى. فقد نجحت فرنسا فى عام ١٩٦٦ فى الانسحاب من التنظيم العسكرى لحلف الأطلنطى بكامل سيادتها.
فإذا كان الأمر كذلك، فلنحتفظ بهدوئنا، إن تصور تحول المجر إلى المعسكر المحايد أمر وارد بالفعل أو قد يكون علينا فى وقت قريب طرح هذه المسألة بشكل صريح.
وهذا التفكير يقودنا إلى القضية الكبرى المتعلقة بمفاوضات التسليح بين الشرق والغرب، فالتحدى فى هذا الموضوع كبير، لأن إبرام أى اتفاق فى هذا الشأن، ستكون له تداعياته الدائمة على أمن القارة الأوروبية. فمعاهدة ديسمبر عام ١٩٨٧ حول القوى النووية متوسطة المدى كانت قد لطخت بعيوب برزت نتائجها جليًا بالنسبة إلى الغرب بتفجر أزمة زلزلت كيان حلف الأطلنطى.
لنتذكر النقطة الرئيسية، إنه باستثناء قاذفات (إف ١١١) المنصوبة فى بريطانيا، فإن الولايات المتحدة بموجب هذه الاتفاقية ستفقد قدرتها على الإطلاق النووى من أوروبا على الأراضى السوفيتية بينما يحتفظ الاتحاد السوفيتى بجميع خياراته للإطلاق النووى على الأراضى الأوروبية بمجرد إعادة توزيع معداته.