الأحد 22 سبتمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

"الوصية الزرقاء" لإيمي نور

إيمي نور
إيمي نور
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
* الليلة الأولى "الكفن"
بقايا شموع.. صناديق ووسائد برائحة الصبر..
ضحكات ودموع ولمحات على الجدران تملأ ضيق المكان..
وباقات زهور تشدو بالرثاء حول الفراش..
كانت السماء تملؤها مشاعر الغربان..
وأنا هنا أقف على أرض مقطوعة الظل في ضجر الظهيرة..
أحترق كفراشة الرسام.. وأطل
أطل على ملائكة قادمين صاعدين حفاة إلينا يحملون نعشًا أسودًا بلون النبيذ..
أطل على أصوات أصدقائي والفضوليين والغرباء في الخارج تتدحرج فوق الرياح..
أطل على اسم أبي المسافر من الشرق للغرب وعلى أشقاء ثلاث بلا لقب..
أطل على صورتي تهرب من نفسها وتحمل منديل أمي يهوى في الريح..
وأسأل..
ماذا سيحدث إذا عدت إليها طفلاً بلا دين
لنشعر بالحنين لبدايتنا دون قصد..
ونرى ما فعل بنا الزمان هناك وما فعلناه به..
وأسأل..
إلى أين أنت تذهب أيها الغريب؟
أمامك ظلمة ووراءك خوف وفي داخلك قفـص..
وتضحكني أيها الغريب..فليس الغريب من جفاه الحبيب وتغافل عنه الرقيب..
بل الغريب من ليس له نسيب.. الغريب من ليس له من الحق نصيب.. الغريب من هو في غربته غريب..
فتعال نرقص علي أحداث هذه الغفوة وعلي هذا الميراث من الجفوة..
فأنت الآن لا أهل لك ولا وطن ولا نديم.. ولا كأس ولا سكن..
فقد غابت من كانت تعرف كيف تنفتح السماء..
ولا دور لك في المزاح مع العمر..
فماذا بعد حين تمطر السماء فيه الأحجار عليك..
فقط هو الحنين في حبق النهار وعتمة الليل بعد أن اغتم المكان..
فقد كان على الذين يحبهم المرء أن يموتوا مع كل أشيائهم... 
حتي وإن كانت أشياؤهم أولها وآخرها أوراقاً زرقاء..
* الليلة الثانية "الوصية الزرقاء"
ثقلت رخام الكلام لتعبر إمرأتي بقع الضوء في قصيدتي حافية..
ودب في جسدي كلاماً لا أعلم إن كان يوماً قد ظَهر أو بطن..
وأخذت أقول عنها وعن الفارق الهش بين النساء والشجر وفتنة الأرض..
وأي لغة مقدسة تطيع مخيلتي في حواري مع السماء..
فقد نبتت علي جوانبها الأبجديات والمعنى..
فبحضورها اغتم وانسي من الجميع والقدر.. 
وأصير كالفقيرة تقف علي خيط ناي تطحنها كل يوم عربات الأمير..
هي..
أميرة نشأت علي رصيف الحلم والأشعار كحروف من نور من فم نبوي مطهر..
رقصت مع صغار الملائكة ونفر منها الجن..
مُهرة كان صمتها طفولة برد ورعد.. 
وشبابها هوية وبركان..
صبية تغيرًت في كل شئ وغيرًت كل شئ وكسرت جدار الكون..
ابنتي..
كانت تسرق من دودة القز خيطاً تصنع به سماءً لتحفظها من الرحيل..
وتطلق رصاصة حلمها إلي السماء.. لتُسقِط عنقود من عنب الجنة بدعائها الملآن..
تسير ببطء في الدنيا كأنثي طاووس واثقة بكيدها وسحرها وبداخلها ماخفي من نداء..
وتدق علي حائط الليل فيخرج لها ألف مجنون ليلي آخر..
كانت الأرض تبتهج بملامسة قدمها العاري فتعيد عقرب الوقت لشرعية العاشق المقدس..
وعلي يديها أشهد المجد وإن كانت أصغر من الهدف..
فقد تركت اسمها وعمرها المتعددين في كفي الخلود بعد أن استحقت قبور الأنبياء كأثر علي حجر لا يموت...
ولايمكن أن أصورها امتداداً للحقيقة.. فالمرايا دوماً كانت أضيق منها..
وبنبرات من قلب يرممه الحريق أنعي ذاتي.. وأقر:
"لو كان لي أن أكون فتاة لكنت هي..
فأنا لم أعد أقدر علي أن أنافسها علي مافيها أكثر.. 
ولا أريد أن أطل علي الأرض كي أرى أحداً يحمل أعظم مني يركض خلفي.. فبعدها لن تشفع يوماً راياتي لأي معجزات..
ولا أريد أن أنظر بعدي كي أتذكر أنني لم أمر علي الأرض يوماً فقد أخذت هي الإسم عني وكل فضة الحور..
رفعت عنها اليد والقلب بعد أن أدركت أن لها صوت الحياة الأول وكل الدنيا والآخرة..
ولها أيضاً الحقيقة ذات الوجه الواحد.. إنها ابنتي وأنني صرت مع الجميع يعبد فيها ما يقول..
*الليلة الثالثة "لم يخلق الله من النساء نبية"
لم يكن لدي شكوك بأنني ابنة أمي..
وكان فقط لدي بعض من يقين أنها مفارقة ومصادفة..
وكل اليقين أن كل هذا العمر لم يلدني رحم أمي إلا ساعات ورحل..
وبأنين العاجز كجرح طفيف في زراع الحاضر العبثي أدركت الآن
كم كانت تتذكر أمي حين تزور حلمي ما صار لغدها..
غدها المعدوم والمنتظر الذي لم تقرأه عيون القدر..
وكم كانت تصاب بالرعشة قهراً وتستمر في شرب النبيذ وتقول لي في كل نظرة عين.. إليك عني.. 
ولكن..
ليس لي أي دور بما كنت أو أكون..
فقد عشت دوماً روحاً بين الإشارة والكلام..
وجسداً بين سحر الآلهة وأطراف الهواجس..
هو فقط حظ الوحيدين.. المتوحدين..
والذكرى لنا دوماً ورداً مقدساً في الليل.. 
نعم هي الوحدة مزاج الأنبياء..
وقد أحسن الله الصنع بأن جعلني جارة ألوهته..
فأطيل سلامي علي أنا الذي لايموت لأن بي نفس الله..
ولكن من أنا فالله لم يخلق من النساء أنبياء..
فقط أنا لم أفطم علي تفاحة الخطيئة..
أنا..
أنا عذراء ليل العلاقات السريعة.. لم أجتهد يوماً في اكتشاف أشد مواقع جسدي سرية..
وصرت دوماً الجميلة يحاصرها الآخرون في حلبة الرقص الطويلة..
وأنا الحلم..الذي يدرب الجميع علي أسراره ويرحل..
فقط 
أنا ألف ذات تجمع أشلائها في امرأة تلمع فقدها بالبرق..
كتكرار لصدى الألم في أغنية لن تكتمل..
أنا زهرة وحيدة تنام في حضن صخرة ميتة.. وتغني كل ليل نصفها الفقود..
والآن..
بعد أن مزقتي يا أمي صدري المكشوف..
ومحوتي في هدوء عظامي عن لحمي.. لكي أن تعلمي أن خلف الكواليس يختلف الأمر..
لم أكن الجميلة كما كنت تظنين.. ولكن صناعي صنعوا مرآتي لأطيل تأملي..
ولم يؤنسني سوى ملامحي فقط التي غابت في مرآتي وتاهت وسط زحام مرآة من حولي..
ولو كنت أذكي لحطمتها لأري كم أنا الآخرون..
أحببت ذاتي إلي حد العتمة..
فأنا لم أعد أرى سواي بعد أن تجلت لي روحي علي السياج البعيد..
فرحماك وعطفك بالذي اقترب من ذاته..
فأنا أحب ذاتي كل يوم أكثر مما كنت أعرف..
وهو السراب..
وبدونه ماكنت أنا الآن..
وليس دوماً علينا كشف عوراتنا لكي تبقي حقيقتنا عذراء..
وإنها أسطورتي المذبوحة قبل رقصة الموت الأخير يا أمي.
الوصية زرقاء والأرض سوداء.. وثلاثون نهراً يصبون بقلبي ..
فلم يعد لي وطن ولا منفي إلا أنا..
وما أملك فقط سوى دعاء الوحيدين.. 
إذ قال ربك للأرض كوني لهم..
وازرعي أحلامهم في رحم السماء..
ولا تتركي وحيداً إلا وجعلتيه يسكن داخلي..
فطوبى للذي لم يقف في طريق الخطاة والمستهزئين..
طوبى لمن كان الرب مسرته..
طوبى لمن أراد فقط قلباً لا حشو بندقية..
وطوبى لي أنا فقد كنت أظن أن غاية الوصية هي المحبة من قلب طاهر وضمير صالح وإيمان بلا رياء..
ولكن كان هذا كل ميراثي من أمي وصية زرقاء..وأيام حداد ثلاث زرقاء
أما الأرض "الأم" فلا أعرفها ولا رأيتها إلا كالحانوت يوم الدفن..
فحقاً كلما أدركت سراً من الحياة قلت ما أجهلك..
فالرفق بالقبور..