احتفلت مصر منذ أيام بيوم تحرير سيناء ٢٥ أبريل ١٩٨٢ ففى هذا اليوم التاريخى ارتفع العلم المصرى على أرض سيناء وتحررت الأرض المقدسة من وطأة الأقدام الإسرائيلية التى دنست كل حبة رمل مشت عليها.
ولكن ونحن نحتفل بيوم تحرير سيناء نحتفل بلحظة العبور العظيم وعيد النصر على العدو الإسرائيلى فى حرب أكتوبر ١٩٧٣، الذى كان انتصارا استراتيجيا للعرب وفى نفس الوقت انتصارًا عسكريًا للجيش المصرى خير أجناد الأرض، ما من أحد ينكر حقيقة قوة الجيش الإسرائيلى وقتها إلا أن هذه القوة التى كان يقال عنها إنها قوة لا تقهر، قد وضعت خلال حرب ١٩٧٣ وبعدها بسنوات فى لبنان ١٩٨٢ موضع الاختبار، فبالنسبة للاختبار الأول للقوة الإسرائيلية، فقد كان المسئولون الأمريكيون المعاصرون لهذه الحرب سواء من كان منهم على قيد الحياة أو الذين رحلوا عنا بأمان، أكثر من غيرهم علمًا بحجم الخسائر التى تعرض لها الجيش الإسرائيلى، وعمق الصدمة الشديدة التى أصابت القيادة السياسية والعسكرية وقتها. فقد استغاثت جولدا مائير رئيس الوزراء بطريقة هيستيرية وأيضًا موسى ديان وزير الدفاع طلبا للمساعدة الأمريكية السريعة لإنقاذ إسرائيل من الهلاك والضياع التام.
كما يعلم المسئولون الأمريكيون أكثر من غيرهم، مدى تأثير وفعالية المساعدة الأمريكية غير المسبوقة المتمثلة فى الجسر الجوى الأمريكى لإرسال السلاح لدرجة أن الولايات المتحدة لم تكتف بإرسال الأسلحة والمعدات العسكرية الرهيبة إلى إسرائيل، بل شاركت بالفعل معها بجنودها وقاداتها العسكريين على أرض المعركة وإمدادها بالمعلومات وصور الأقمار الصناعية عن ساحة المعركة وحجم الجيش المصرى، مما أدى إلى تغيير مسار ونتائج الحرب، ولولا الولايات المتحدة لكان الجيش المصرى قد دخل تل أبيب.
وبرغم الفارق الضخم فى حجم ونوعية السلاح بين الجيش المصرى والجيش الإسرائيلى، فقد تمكنت مصر أن تحقق انتصارًا عظيمًا ما زالت نتائجه ملموسة حتى الآن.
فمع أن الولايات المتحدة تقدمت صراحة لمساعدة إسرائيل بعد الصدمات الأولى التى تلقتها فى ميادين القتال إلا أن نتائج الحرب كانت مع ذلك قابلة للتطوير والاستغلال السياسى بعد توقف المعارك، وليس هناك شك فى أنه بعد توقف المعارك فى الأسبوع الأخير فى شهر أكتوبر ١٩٧٣، كان العالم مبهورًا بما استطاع العرب تحقيقه فى هذه الحرب. كان العرب يبدون أمام العالم كله قوة يحسب لها حسابها سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا خاصة عندما استخدم العرب سلاح البترول بطريقة ذكية وقوية فى الضغط على الغرب لاحترام إرادتهم واسترداد حقوقهم وتحرير التراب العربى.
أما الاختبار الثانى بالنسبة للقوة الإسرائيلية التى لا تقهر فهى حرب لبنان ١٩٨٢ والتى لم تكن أصلًا موجهة ضد جيش عربى نظامى بقدر ما كانت موجهة ضد مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين، وبرغم آلة الحرب الإسرائيلية الضخمة فإن حملة لبنان ١٩٨٢ لم تنجح فى تحقيق أى من أهدافها الاستراتيجية لإسرائيل بل كانت سببًا فى توريط الولايات المتحدة فى تلك الحرب والتى راح ضحيتها حوالى ٣٠٠ من مشاة البحرية الأمريكية وأجبرت أمريكا على الانسحاب، كما أجبرت تلك الحرب السافرة رئيس وزراء إسرائيل وقتها بيجين إلى تقديم استقالته. كما أقيل أيضًا كل من وزير الدفاع شارون والعديد من القادة العسكريين إلى جانب ما أحدثته من شرخ عميق فى نفوس الشعب الإسرائيلى، وزعزعت الثقة فى قوة الجيش الإسرائيلى وحطمت نفسيته.
وتشير بعض التقارير العسكرية الواردة من داخل إسرائيل إلى الآتى:
- إن أعراضًا مرضية خطيرة ظهرت على الجيش الإسرائيلى بعد الحرب سيكون لها مضاعفات أخطر على المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ومن بين هذه الأعراض تذمر الضباط والهروب من الجيش وعدم الرغبة فى البقاء بالنسبة للخدمة العسكرية. وتراجع المعنويات وانهيار القيم القتالية وضعف العقيدة العسكرية، وسرقة السلاح والاتجار فيه وسرقة الوقود من الجيش.
- فى الوقت الذى أشارت التقارير إلى تفشى ظاهرة إدمان المخدرات بين قطاعات كبيرة داخل الجيش الإسرائيلى، وكل هذه السلبيات الخطيرة أدت إلى تغيير نظرة الإسرائيليين إلى الجيش الذى بدأ يفقد احترامه وهيبته وبريقه مما أدى إلى ازدياد حدة التفسخ داخل الكيان الإسرائيلى وظهور الصراعات العنيفة المدمرة داخله.
- وهكذا تجد أن حرب ١٩٧٣ كانت هى السبب الرئيسى فى إعادة الثقة والتوازن النفسى لكل الجيوش العربية؛ لأنها حطمت حاجز الخوف والقلق بأسطورة الجيش الإسرائيلى الذى لا يقهر. كما كانت فى نفس الوقت وما زالت السبب فى زعزعة الثقة وتحطيم نفسية الجيش الإسرائيلى.
وإذا كان الموقف بين العرب وإسرائيل يطلق عليه حتى الآن الصراع العربى الإسرائيلى، فإن هذا يرجع إلى أن الصراع بمفهومه العام فى أدبيات علم إدارة الأزمات هو تعارض فى القيم أو الأهداف أو تنازع حول الحقوق والأيديولوجيات بين مجموعتين من البشر فيأخذ هذا التعارض صورًا حركية بمعنى أن أحد الطرفين يتخذ من الوسائل والتدابير ما يمنع الطرف الآخر من تحقيق أهدافه.
وهكذا نجد أن الصراع لا ينتهى مادام أن أحد الأطراف لم يحقق أهدافه أو بعضا منها. ويتخلل الصراع أزمات مختلفة وأيضًا فترات هدنة واتفاقيات سلام.. إلخ، ولكن ما دام الهدف لم يتحقق من الصراع فإنه يستمر ويتصاعد ويمر بفترات يتحول فيها إلى صراع مسلح.
وفى أكتوبر ١٩٧٣ حدثت الأزمة بما تحويه من مفاجآت سواء فى المكان أو الزمان. واشتملت حرب أكتوبر على كل عناصر الأزمة وهى المفاجأة، والتهديد، وضيق الوقت أو كما يطلقون عليها مثلث الأزمة، مما يجعل الدولة مستعدة للدفاع عن مصالحها القومية وقيمها. ويعتمد علم إدارة الأزمات على سيناريوهات مستقبلية أى التفكير فيما سيحدث بالقدر الذى يجعل الدولة قادرة من خلال إعداد سيناريوهات الأزمة إلى احتواء والتغلب على كل عناصر الأزمة.
وقد نجحت مصر فى إدارة الأزمة أو حرب أكتوبر ١٩٧٣ وفشلت إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية ومعهما الاتحاد السوفييتى وقتها فى إدارة الأزمة وأيضا جميع أجهزتهم الاستخباراتيه الخطيرة العملاقة التى كانت تصدع عقولنا بأنها تعرف دبة النملة. نجحت مصر بعملية خداع استراتيجى وجهت إلى معظم دول العالم بما فى ذلك القوتين العظميان فى العالم وقتها وإسرائيل؛ لأنها لم تتفق مع السيناريوهات الموضوعة مسبقًا فى الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من احتمالات نشوب الحرب فى الشرق الأوسط. لقد كان هناك من إشارات الإنذار المبكر ما يعتبر دليلًا على شعور المصرى والسورى بالإحباط نتيجة للأوضاع الاقتصادية والسياسية السيئة فى كلتا الدولتين السورية والمصرية إلى جانب أن تقدير الموقف فى ذلك الوقت كان خاطئًا لأنه بنى على أن الإسرائيليين كانوا أقوياء إلى درجة أن العرب لن يجرأوا مطلقًا على الهجوم خاصة بعد التدفق الهائل للأسلحة الأمريكية لإسرائيل بعد عام ١٩٧٠.
وطبقًا للعزف العسكرى فإن الهجوم يبدأ فى أول ضوء أو آخر ضوء وكانت المفاجأة الأولى فى توقيت الهجوم حيث إنه تم فى الساعة الثانية ظهر ٦ أكتوبر الموافق العاشر من شهر رمضان المعظم مما كان له أثر كبير فى إرباك القيادات الإسرائيلية.
والمفاجأة الثانية هو قدرة ومقدرة ومهارة الجندى المصرى وإصراره على طلب الشهادة كان دافعًا له على القيام بأعمال خارقة فى ساحة القتال كان ذلك مفاجأة لإسرائيل فى أسلوب استخدام الأفراد والأسلحة بخلاف المتوقع مما أحدث خسائر كبيرة فى الخصم. المفاجأة الثالثة فى الفكرة العبقرية التى استخدمت فيها القوات المصرية خراطيم المياه فى شق خط بارليف المنيع والتى قال الخبراء الأمريكيون إن هذا الخط يحتاج إلى قنابل ذرية. هذه أمثلة بسيطة لما حققته مصر فى نجاح غير متوقع من وجهة النظر الأمريكية الإسرائيلية فى إدارة الحرب؛ لذا فقد كانت حرب أكتوبر ذات أهمية مزدوجة كشفت عن زيف السيناريوهات المخططة للسياسة الأمريكية تجاه الصراع العربى /الإسرائيلى كما أنها أفصحت عن حجم التحيز الرهيب للإدارة الأمريكية لإسرائيل والذى ما زال مستمرا حتى الآن. ولم يبق إلا أن أؤكد على أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.. رحم الله الزعيم جمال عبدالناصر رائد لدرب لم يمهد.