هكذا رأينا أن نقولا حداد وبعد حركة التفاف واسعة وقد وصل إلى شعار مهم وهو «حتمية الحل الاشتراكي»، لكنه لسبب ما، ربما بسبب محاولته تبرئة نفسه من التحريض على فعل الثورة يعود لينقض على بنائه الفكرى المتسق فيؤكد أنها آنية حتما.. حتى دون نضال عمالى، بل ورغم أن كثيرين من العمال أنفسهم يقاومونها. وبهذا يفقد ما حاول أن يؤكده من حتمية الصراع الطبقى المفضى حتما للاشتراكية، وربما كان هو نفسه يعتقد بذلك، فهو يرى أن الثورة العمالية لا يشترط أن تكون صائبة أو واجبة فى كل الأحوال، فيقول بلا مبرر: «ليست الشهادة فى المعارك برهانا على الحق أو صحة العقيدة، وإنما هى رد فعل الجمهور على الفرد، فالذين يكونون رأس الموجه فى النهوض والتحمس الغوغائى هم الذين يصطدمون بصخور الشاطئ، ويرتدون متكسرين كتكسر الأمواج على الصخور»، ولست أدرى كيف أفسر هذه الكلمات التى أتت خارج كل سياق ما قال وكل سياق ما سيقول. هل هى تحذير من الاندفاع والتعجل واصطناع مواقف ثورية مفتعلة ودون نضوج بواعث الفعل الثورى فى حركة الجماهير، أم تحاول الابتعاد عن شبهة التحريض على الثورة، أم أنه كان فى واقع الأمر كذلك.. يقول ثم يخشى من الفعل المترتب على القول؟ ومع ذلك؛ فإن نقولا حداد يواصل متحدثًا عما تحدث عنه كارل ماركس وسمّاه «وثنية رأس المال»، فيقول: «ولما كان استخدام النقود وسيلة للمقايضة، أصبح النقد بذاته يعبر عن قيمته المعلنة على الورقة النقدية المطبوعة دون أن يتذكر الناس ما يقال فى علم الاقتصاد عن تولد القيمة عبر قوة العمل.. ثم يقول: «لقد اكتسب المال بذاته قوة تحقيق الثمار من خلال المراباة مثلا فبها نجد أن المال يثمر مالًا».
وهكذا؛ فإن النظام القائم يعطى المال بذاته قوة لإنتاج مزيد من المال، بينما الحقيقة أن المال ليس إلا ثمرة لقوة العمل. والحل الذى يقترحه نقولا هو «إلغاء نظام: تثمير الأموال»، ولهذا نشأت الاشتراكية فى عقول المفكرين وفى قلوب العمال البائسين. وحتى آليات تطوير عملية الإنتاج التى كان مفترضا فيها أن تحقق رفاهية الإنسان تحولت إلى أداة لمزيد من استغلال العمال وقهرهم، ويقول: خذ اختراع الغزل والنسيج وإنشاء الأنوال وتشغيل مزيد من العمال بأقل أجر، فإن تطور الآلة جعل العامل ينسج فى اليوم أضعاف ما كان ينتجه فى الماضي، ولهذا استغنت المعامل بواسطة الآلات الحديثة عن جمهور من العمال.. وهكذا وعلى التوالى والتمادى زاد الإنتاج بعدد أقل من العمال، فكانت نتائج هذا النزاع الجديد سلسلة طويلة من النتائج، أهمها: ١- أن العمال صاروا يتزاحمون على أبواب المعامل بقبول أقل الأجور لكى يستطيعوا أن يعيشوا. ٢- أن أصحاب الأموال استطاعوا من خلال هذا التزاحم أن يستنزفوا ثمرات جهد العمال، فتضخمت رءوس أموالهم بما مكنهم من التمادى فى احتكار الأعمال، وأصبح سائر الناس عمالا تحت رحمتهم. ٣- أن تضخم رءوس الأموال أدى إلى تزاحم صغار أصحاب الأعمال سواء فى التجارة أو الصناعة أو الزراعة» (الكتاب الثاني- ص١٤٠).. ثم يقدم نقولا حداد مزيدًا من الإدانات التى تسببها احتكارات رءوس الأموال، أو لعلها قرار اتهام لمجمل النظام الرأسمالى.. ثم وبعد قرار الاتهام تكون الإدانة لهذا النظام، ويقول صراحة «إن عقدة النظام الاشتراكى هى فى كونه نظاما يستلزم هدم القديم برمته وبناء جديد بديلا له» (الكتاب الثاني- ص١٢٧).
ثم يتحدد موقف نقولا فيقول عن المستقبل: «الصراع لا ينتهي» وكل عصر يحبل بنزعات يلدها العصر الذى يليه، والعصر الحاضر يوشك أن يتمخض بالعصر الجديد القريب.. والنتائج هى ثوران طبقات العمال على أصحاب الأموال وبدايته الآن ومن الأرجح أن يكون دمويا، لأن العقل الاجتماعى لا يزال قاصرًا ولا يستطيع أن يتدبر المشكلات، ومن ثم يكون احتكاك يقدح الشرر ومع عناد أصحاب الأموال الأوربيين واستمرارهم فى قهر العمال ينذر بانفجار» (الكتاب الثاني- ص ١٤٥). ويتوصل الحداد رغم ذلك إلى عبارة كررها كارل ماركس، وهى «أن الرأسمالية تحفر قبرها بيدها»، ويقول حداد: ولما استفحل النظام الاقتصادى الحاضر، وتصاعد على أكتاف التقدم العلمى، وعلى كاهل الاختراعات، وحصل العامل إلى حد ما على بعض الحرية النقابية خلافًا لسلفه العامل المستعبد.. وعرف العامل قيمة قوته، وتساءل: إذا كنا نحن العمال مصدر قوة العمل، ومن ثم مصدر القوة فى العملية الإنتاجية، وإذا كانت القوة هى مصدر السلطة فلماذا لا تكون لنا نحن معشر العمال ما دمنا نحن مصدرها ؟» (الكتاب الثانى ص ٣٠٥). ولعل هذا هو المغزى الكامن فى كتابى «علم الاجتماع» وهو الإجابة عن السؤال: «إذا كنا نحن العمال مصدر القوة، وحيث تكون القوة تكون السلطة، فلماذا لا تكون السلطة لنا نحن معشر العمال ما دمنا نحن مصدرها؟».
ولكن نقولا حداد لا يمل من التطلع إلى المستقبل فيسأل: «وماذا بعد الاشتراكية؟»، ويقدم كإجابة صورة وردية حالمة لمجتمع عالمى «يجمع الأمم فى أمة واحدة»، لكن ذلك يتبدى حلمًا لذيذًا، ولكنه بعيد التحقق، إذ لا بد من مقدمات، فإذا تحقق حلم الاشتراكيين واستتب النظام الاشتراكى (الذى سمّاه الديمقراطية الاقتصادية) فى كل الممالك، فلا يخفى عليك أن هذا النظام العالمى الجديد يستلزم نقض كثير من العلاقات الدولية وبناء علاقات جديدة، ويستلزم جوًّا سلميًا أكثر صفاء من الجو الحالي، وانصراف الجمهور إلى العمل من أجل التمتع فقط وليس حشد الثروات، وأن يكون السلام أكثر توطدًا من الآن بحيث تسود علاقات دولية أساسها أكثر عدلا ومساواة وحرية». وهذه النزعة الأممية يسميها نقولا «الديمقراطية الدولية»، ويقول وهذا العقل الاجتماعى الأممى يرشد بذاته الأمم إلى أن الديمقراطية الدولية التى هى الوسيلة العادلة لمنع الحروب وتوطيد السلام. وهكذا يقودنا نقولا حداد خطوة خطوة نحو حلم اشتراكى عادل وحر ويسوده السلام، وأخيرا وبعد كل ما سبق يقرر نقولا أن يكشف عن كنوزه التى خبأها فى كتابيه، فيعلن وبصراحة فى صيحة مدوية «أن كارل ماركس هو أبو الاشتراكية».
ونواصل.