جيفارا الحواري لم يمت
الموت. صائد الفراشات الجميلة، وقاطف الزهور البديعة، وجامع الناس بمختلف طبقاتهم. يزورنا ليفجعنا فى حبيب أو يوقظنا من سبات الحياة الرتيبة التي تدور وتتكرر فى سبيل هم واحد هو " أكل العيش".
كان أحمد فؤاد نجم، بالنسبة لي ملاذًا وحائطًا ضد الإحباط والانهزامية في زمن طغت فيه الماديات، وتحكمت فيه المصالح. ومنذ عرفته لأول مرة فى "ميريت" قبل ثلاثة عشر عامًا، وأنا ألتمس لديه الصلابة والقوة فى مواجهة الخوف واليأس. كتلة من الشدة والرجولة، وحزمة من الإرادة والحيوية، ورشة من التفاؤل والمحبة. هكذا كان وهكذا ستبقى سيرته لدى كل من حوله من شباب وفتيات وشيوخ ومثقفين وبسطاء وصعاليك .
فى جنازته رأيته سعيدًا مرحًا كعادته يُدندن فى تبسط، وكأنه طفل صغير مازال يلعب الكرة فى حواري وأزقة القاهرة. كان يضحك من قلبه رغم صدمة الموت، وكأنه سعيد وراضٍ بسنوات عمر أهداها للوطن إخلاصًا وحبًا.
هو شاعر لن يتكرر ليس في كلماته ولا أوزانه ولا تصاويره، بل في بساطته وإنسانيته وقدرته على التهوين من الشدائد والتقليل من المحن .
"نحن أعظم أمة، وأحسن شعب، لذا ستعود مصر رائدة عظيمة كما كانت في الماضي". هكذا كان يقول بعد ثورة يناير. وقبلها كم قال لنا عند أي اعتلال فى صحته "لن أموت الآن . لن أموت قبل أن يفيق هذا الشعب".
كان "نجم" في السماء بمحبة الناس وعشقهم. كالشجر العتيق ينشر ظله وخيره وجماله على من يعرف ومن لا يعرف. يؤمن أن الغد أفضل، وأن الإصلاح واجب والتغيير حتمي. كنت كلما تلفني العتمة أذهب إليه ألتمس النور والحق والحقيقة. مجنون؟ . فليكن لكنه أرجح عقلًا من كل المنتفعين بالوطن. كل جنونه أنه يرفض التقوس فى وجه المستبدين. فقير؟ فليكن، لكنه غني بحب الناس والتلاميذ والأنصار.
صلب كجبل المقطم الذي يسكنه منذ أن فقد بيته في زلزال 1992 .. بسيط كجلبابه الشعبي الذي رفض استبداله بأفخم الملابس، عندما نزل فى ضيافة زعماء ورؤساء. ضحوك وساخر وتلقائي وعشري وودود.
لقد عاش "الفاجومي" يصلح مصر بالشعر فكتب "يا أهل مصر المحمية بالحرامية / الفول كتير والطعمية / والبر عمار. والعيشة مكسب وهي ماشية / آخر آشية / مادام جنابه والحاشية / بكروش وكتار".
وكتب ليفضح لصوص مصر الذين سلبوها ولا زالوا فقال "والبقرة حلوب/ حاحا / تحلب قنطار/ حاحا / لكن مسلوب/ حاحا / من أهل الدار".
وكتب "اتجمعوا العشاق فى سجن القلعة/ اتجمعوا العشاق فى باب النصر " ليغنيها المعتقلون السياسيون والمحرومون من الحرية.
وحين تناقلنا خبر وفاته أمس الأول، تذكرنا أغنيته الخالدة ودندنا بكلماتها فى خشوع : "جيفارا مات .. جيفارا مات / آخر خبر فى الراديوهات ./ وفي الكنايس وفي الجوامع وفي البارات / جيفارا مات. واتمد حبل الدردشة والأمسيات".
لكنني أتصور أن جيفارا الحواري المصرية لم يمت بعد، فمن قال "لا" لم يمت كما علمنا أمل دنقل.