الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الثورة البيولوجية ومستقبل الإنسان

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بلغت عظمة الاكتشافات العلمية مرتبة متقدمة جدًا فى عصرنا الراهن، وقطعت تكنولوجيا العلم شوطًا بعيدًا فى كل ميدان، حتى باتت جماعة من العلماء تظن أن فك رموز الطبيعة بأسرها قد بات فى متناول اليد. والحق أن هناك بشاير تجيز للعلماء أن يذهبوا إلى مثل هذا الرأى الذى قد لا يكون مألوفًا لدى الكثيرين أو مستساغًا عند بعض الناس، فقد أصبح الإنسان فى يومنا هذا يعرف عن نفسه أشياء كثيرة لم يكن له بها علم من قبل، ذلك أن العلماء قد تمكنوا من كشف جانب كبير من الأسرار التى تتعلق بوجود الإنسان ومراحل تطوره وغير ذلك كثير، فلقد تيسر للباحثين -مثلًا- أن يعرفوا الطريقة التى تتضافر بها أنشطة الجسم المختلفة، وكيف تقوم الأجهزة المتعددة بوظائفها، وكيف تتم عملية التفكير، وما علاقة الدماغ -وهو جهاز التفكير- بسائر أعضاء الجسم وأجهزته. 
ومهما كانت طبيعة النزاع الحاد الذى ما زال محتدمًا بين جماعات مختلفة حول تحديد شكل الإنسان فى المستقبل، وحول شرعية التحكم بخصائصه الوراثية، فإن المحصلة النهائية تتمثل فى أننا أصبحنا اليوم نعيش «ثورة بيولوجية» بكل ما فى الكلمة من معنى، فعلى غرار ما فعل الكيميائيون والفيزيائيون عندما أقبلوا على دراسة المادة الجامدة وتوصلوا إلى كشف الكثير من أسرارها، وجدنا البيولوجيين يعملون بشغف شديد على دراسة الخلية الحية ويبحثون فى نواتها ومكوناتها، بل لعل الثورة التى صرنا نشهدها اليوم فى ميدان البيولوجيا، قد فاقت بكثير مثيلتها التى تحققت فى ميادين علمية أخرى. 
إذا كان منتصف القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين يسمى بعصر الفيزياء، فإن الشواهد العلمية التى ظهرت فى السنوات الأخيرة تدل على أننا دخلنا عصرًا جديدًا تنبأ بعض الباحثين بأنه سيكون «عصر البيولوجيا»، فعلى الرغم من أن الجهد العلمى الذى بُذِلَ فى البيولوجيا فى بداية القرن العشرين، كان أقل مما بُذِلَ فى الفيزياء التى استطاعت أن تخلق ثورة علمية وفكرية خلال ذلك القرن، فإن البيولوجيا تبشر بالتوصل إلى اكتشافات أكثر أهمية وأشد خطورة مما توصلت إليه الفيزياء، ليس فقط بسبب تأثير هذه الاكتشافات على حياتنا من خلال تطويرها للطب وخلق علم جديد فى مجال التغذية، وإنما أيضًا بسبب تأثيرها على مواقفنا وآرائنا حول طبيعة الحياة.
إن الإنجاز الأكبر فى ميدان البيولوجيا والطب الحديث لا يتمثل اليوم فى معرفتنا بأن أمراضًا كثيرة ترجع فى أصولها إلى أسباب وراثية، ومن ثمَّ يمكن وضع الإرشادات وتحديد الضوابط والقيود التى تحول دون الإصابة بها عن طريق استشارة مكاتب الزواج ومراكز تنظيم النسل، نقـول: إن الإنجاز الأكبر لا يتمثل فى اتباع هذا الطريق فحسب، بل فى ابتكار وسائل جديدة من شأنها معالجة الأمراض الخطيرة والحالات المستعصية عن طريق ميدان جديد فى الطب يسمى «علاج الجينات»، فالأطباء يتحدثون اليوم عما يسمى بـ«المعلومات عن السرطان» مثلًا، أو المعلومات الخاصة بأى مرض وراثى يتم تحديده عن طريق الجينات، ذلك أن الجين gene نفسه عبارة عن جزىء من المعلومات التى يتم بواسطتها برمجة الأحماض الأمينية فى الخلية، وعلى ذلك فإنه لو تيسر للطبيب أن يُدْخِل معلومات تصحيحية أو علاجية إلى الخلية فإنه يصبح ممكنًا القضاء على المرض أو تجنب حدوثه مسبقًا، وحال المرء الذى يخضع لعلاج من هذا النوع يماثل حال المرء الذى يتلقى مصلًا واقيًا أو تطعيمًا يجعله بمنأى عن الإصابة بمرض معين، وكل الفرق هنا هو أن الأمصال الواقية تؤخذ بعد الولادة فى حين أن العلاج عن طريق الجينات يعتبر بمثابة تطعيم ضد الأمراض أو العاهات يتلقاه الجنين من قبل أن يُولد أو يتشكل فى رحم الأم.
الأكثر من هذا وذاك هو أن «الهندسة الوراثية» قد فتحت لنا أبواب عهد جديد فى حياة الإنسان وتطوره يصعب على العقل أن يتصور أبعادها وإمكاناتها فى كثير من الأحيان، ذلك أنه إذا كانت مكاتب الاستشارة للزواج وأسلوب علاج الجينات مسبقًا يهدفان إلى القضاء على الأمراض أو تلافى حدوثها، فإن هندسة الجينات تفوق ذلك باستهدافها إكساب الأجيال القادمة إمكانات جسمية وعقلية متميزة تفوق القدرات التى يتمتع بها البشر عادةً فى عالمنا المعاصر، إذ أصبح الإنسان قادرًا عن طريق «هندسة الجينات» على التدخل عن عمد وبشكل مقصود فى صنع إنسان جديد يتم تحديد سماته وخصائصه بصورة مسبقة، وقد بلغت هندسة الجينات أو ما يسمى اليوم بـ«الهندسة الوراثية» حدًا فاق بكثير ما كان يُنْسَب بالأمس إلى عمليات الإخصاب الصناعى من أهمية أدهشت البشر جميعًا، إذ يمكن للبشر عن طريق الهندسة الوراثية أن يتحكموا فى جنس الجنين، فما يكون على الوالدين اللذين يرغبان فى الإنجاب سوى أن يحددوا «المواصفات» التى يودان أن يتصف بها الجنين مثل رغبتهما فى أن يكون الجنين ذكرًا أو أنثى، أو تفضيلهما أن يكون الجنين ذو شعر أشقر أو عينين عسليتين، أو طول فارع، أو ذكاء حاد، أو ما إلى ذلك من صفات كثيرة يختارها الأبوان بمحض إرادتهما و«حسب الطلب».
إن عملية التطور التى مرَّ بها علم البيولوجيا لم تكن عملية سهلة بالنسبة لهذا العلم، بسبب معوقات داخلية وخارجية، منها على سبيل المثال: 
١- أنه كان على البيولوجيا، لكى تواكب تطور العلوم الأخرى أن تتخلص أولًا من الشوائب التى تركتها العصور السابقة عالقة بها، كالمفاهيم المرتبطة بالسحر والأساطير، التى تدور حول الوجود الإنساني، كذلك كان عليها أن تتجه الاتجاه العلمى البحت، بحيث تتخلص من تأثير المجتمع وعقائده عليها، خاصةً أنها تتعامل مع مادة تمس الإنسان بشكل مباشر، ولهذا دخلت منذ البداية فى معركة كبيرة مع الفكر التقليدي، وما زالت حتى الآن عاجزة عن أن تجيب عن الأسئلة التى تدور حول بداية الحياة على هذه الأرض. 
٢- أن البيولوجيا بحاجة إلى دعم مادي، شأنها فى ذلك شأن بقية العلوم، وهذا ما قدمه لها بعض الشركات بهدف الربح، بل إن البعض الآخر قام باستقطاب مجموعة كبيرة من العلماء لإجراء التجارب وإعداد البحوث لصالح تلك الشركات، ورغم ذلك فإن الأموال التى صُرِفَت فى مجال البيولوجيا كانت قليلة نسبيًا إذا ما قورنت بالمساعدات التى قُدِمَت للفيزياء والكيمياء خلال الحربين العالميتين (الأولى والثانية).
٣- كان التعقيد الداخلى للعمليات البيولوجية يشكل عائقًا قويًا منذ البداية، إذ اتضح للعلماء أن هذه التعقيدات موجودة حتى فى أبسط صور الحياة، وهى أيضًا تسير وفق نظام مختلف تمامًا عن ذلك النظام الموجود فى المواد الجامدة التى تتعامل معها الفيزياء والكيمياء، ما جعل مشاكلها ذات طابع خاص يميزها، ومن هنا عرف العلماء أن البيولوجيا بحاجة إلى معالجة تختلف عن الطريقة التى تستخدمها العلوم الأخرى مع المواد الخام، ولقد أصبحت البيولوجيا علمًا قائمًا على أسس وقوانين خاصة به، ولذلك كانت بحاجة منذ البداية إلى كل الوسائل والأدوات التى تستخدمها العلوم الأخرى، إضافة إلى أدواتها ووسائلها الخاصة، وهكذا فإن علاقة البيولوجيا تداخلت بالعلوم الأخرى إلى حد كبير. 
أدى التقدم فى وسائل البيولوجيا الحيوية والهندسة الوراثية إلى تقدم هائل فى مختلف العلوم البيولوجية ما ساهم بشكل أو آخر فى الحصول على فوائد جمة للإنسان.