من لم يشعر بأجواء السلام والمحبة وقت الصلاة التى ترأسها البابا فرنسيس باستاد ٣٠ يونيو، عليه أن يراجع سلامته النفسية لدى أقرب طبيب نفسي، ساعات طوال وحشد متنوع تعدى الـ ٢٥ ألفًا وتنظيم مذهل وترجمة فورية لمن حالهم مثل حالى لا يعرفون كثيرًا فى طقوس صلاة إخوتنا المسيحيين، ساعات طوال من الدعاء والرجاء والأمنيات كلها عن المحبة والسلام ومساندة المقهور ورعاية المكسور، عن الفقراء، عن التواضع عن الأرض التى لا بد أن يعم فيها الأمن والسلام.
لم نستمع إلى دعوة للعنف أو القتل على الهوية أو الكراهية الممنهجة، تلك الدعاوى التى ترفضها كل الشرائع السماوية بل والديانات الأرضية كالبوذية والهندوسية، جئنا إلى الأرض كبشر لنتعارف ونتعاون ونرحم بعضنا بعضا، فكيف أصيبت الأرض بكل تلك الشرور التى نعيشها فى كل لحظة من دمار وحروب وكذب واغتيال وكراهية؟
شكرًا للقمم الثلاث الذين أدخلوا البهجة لكل قلب مُحب للحياة، ضيفنا الكبير البابا فرنسيس بابا الفاتيكان، البابا تواضروس بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية الذى صنع فتحًا عظيمًا فى التقارب بين الكنيستين، أما القمة الثالثة فكان فضيلة الشيخ أحمد الطيب الذى اجتهد ومازال حالمًا بتأسيس صورة مشرقة للإسلام والمسلمين، أستطيع القول بكل ثقة إن مصر عاشت يومى الجمعة والسبت الماضيين فى حدث تاريخي، وما كان له أن يتحقق لولا سعة أفق رئيس الدولة عبدالفتاح السيسي، من لم تدمع عيناه ويرتجف قلبه لتلك الحالة الإيمانية والروحية الاستثنائية؟ فعندما يقول البابا فرنسيس إن التطرف الوحيد المسموح به هو التطرف فى المحبة، نجد أننا لسنا أمام رجل دين تقليدى ولكنه رجل دين على درجة فيلسوف.
حرصت يومى الزيارة على متابعة معظم الشاشات الفضائية، ومن تابع معى ذلك يعرف أن رد الفعل الإيجابى وصعود اسم مصر بشكل بارز كدولة سلام ومحبة قد فاق التوقعات، السبيكة المصرية العبقرية تجلت فى هذه الزيارة التى سيسجلها التاريخ فى صفحاته المشرقة، مصر التى علمت الدنيا فنون الزراعة واخترعت هندسة الماء وابتكرت التوحيد عادت بكل عنفوانها فى لحظة المد التى شهدناها فى استاد ٣٠ يونيو.
الكلمات الدقيقة المنضبطة لايمكن نسبها إلى دين محدد أو طائفة بعينها، إنها كلمات تضع الإنسان هدفًا وسعادته محورًا للاجتهاد وتستحق التعب من أجلها، الدعوات الصادقة التى خرجت من قلوب المشاركين فى الصلاة وهى تستجدى الرحمة لشهداء الجيش وهى تترحم على أرواح الأبرياء الذين رحلوا برصاصات الغدر والإرهاب، تلك الدعوات التى مست قلوب المصريين من الإسكندرية إلى أسوان تجعلنا نتأكد أن دماء شهدائنا لم تذهب سُدى، ولكنها كانت الطريق الواصل بين مصر التى أرادها الأغبياء منصة للتخلف، ومصر التى نراها الآن منارة للتقدم.
المهم فى كل ما حدث هو أن الرسالة قد وصلت إلى أركان الدنيا الأربعة، الرسالة التى تقول إن مصر قد تمرض بعض الوقت ولكنها أبدًا لا تموت، تنتفض من تحت الرماد لتقول للدنيا: الدين لله والوطن للجميع، تلك الكلمات البسيطة تقولها مصر بكل اللغات، تترجمها على أرض الواقع إلى صلاة وفرحة وتعاون وتماسك وتنمية وحلم أصيل بالمستقبل.
غادر البابا فرنسيس مصر ولم تغادرنا وصاياه ودعواته ومحبته، لذلك أرى أن من حق كل مصرى أن يفتخر ببلاده القادرة على احتضان زيارة كبرى كتلك التى شهدناها يومى الجمعة والسبت الماضيين، أما من يمضغ التردد وما زال قادرا على قول كانت زيارة مهمة ولكن، وبعد لكن هذه يشطب على كل قيمة وكل شيء أقول لهذا الماضغ اطمئن سنطالب الدولة بالتوسع قليلًا لافتتاح المصحات النفسية، وقتها قد يرى العدميون ما رآه شعب مصر بداية هذا الأسبوع.