عفوًا سيدى لم تكن أنت الأمير! ليس لأنك لغز مُعقَّد، أو لأنك عاجز مُقيَّد، أو لأنك لا تَستحِق؛ بل لأننى أخْطَأت حين صدَّقت أن ما أبحث عنه هو «أنت»! وأن من حقِّك هذا «الحب» وذاك «الورد»! ولولا انسحابك العاقل، المبكر، الذى لم أفهمه إلا فيما بعد، ربما كنت تَعثَّرت فى الطريق، وما كنت وصَلْت، لكن سيظل الباب مفتوحًا، والأمل معقودًا، والحب موجودًا، رغم كل خيباتى وانهزاماتى طول الوقت.
عفوًا سيدى لم يكن أبدًا هو «أنت»، بل كنت حلمًا زائفًا، تَشَبَّثْت به؛ ربما لأننى من سخافاتِ البشَر وضرباتِ القدَر وأشياءٍ أخرى أُنْهِكْت، فَطُعِنْت، لكن قدرة الله التى لا تعرف المُحال، أحاطتنى بطوق الحماية والأمان، ورغم نَقاء وعُمْق كل ما تَخيَّلت، وشَعرت، وقُلت، وكَتبت، إلا إننى استيقظت من غفلتى العجيبة، وتعلَّمت الدَّرس، وتغلَّبت.
سيدى أعترف أن الفضل لك؛ لأنك وإن كنت فى البداية كَذبْت، إلا أنك على الفور تَدخَّلت، واحْترَمْت، وأوْضَحْت، وصَرَّحْت، ورغم أننى لم أسْتَوْعِب أبدًا، بل أصْرَرْت، إلا أنك اجْتَهدْت، وناضَلْت، مخلصًا، حتى أرى الصورة بارزة أمامى، كالفضيلة والجمال والحق، وحتى الآن لا أعرف بالضَّبط، من أين جاءنى ضوء ذلك اليقين الكاشف فجأة؟! ولماذا تاه فى الطريق إلىَّ كل هذا الوقت؟!
سيدى لماذا عاشت مشاعرى الناصعة لحظات ساحِرة؟! وهى فى انجذابها هزِيلَة نادِرَة! ثم تَكَشَّفت لى خيوط الواقع العارِية، فاعْتَدلَت كفَّة الميزان المائِلة، أهو وقوعى فى هُوَّة «الانتظار» المُعتِمة؟! التى علمتنى أخيرًا أن الحياة ليست «انتظارات» مُتَهاوِيَة، بل هى «انتصارات» مُتَعالِيَة!
سيدى لماذا فَرَرْت من مطاردة ملاك الحقيقة؟! لماذا لاحقتنى ومضاتك حشودًا بهيجة؟! رغم بَوْح عُنوانك، وجَلاء صورتك، ومُجاهَرِة تفاصيلك! كيف سَمَحْت لطفلتى العنيدة، أن تَلْهو فى ساحتك، تُبارِزُك الحب فى ملعبك، تَحْيا فى عالمك، تَسْكُن قلبك، تَتَلَمَّس يَدك، تَتخلَّل بين أصابعك؟! كيف خانتنى بصيرتى المدربة النافذة؟! كيف أكرر مرتين ذاتَ الخطأ؟!
سيدى أشكر لك انسحابك الأمين من معبدى وحديقتى وسمائى؛ فهو يدل على أصل معدنك الكريم، لكننى عذرًا لن أسامح اقتحامك الخبير، غير النبيل، للتَّسلية والتَّنزه والتَّمتع بعض الوقت؛ رغم أنه يَنْطُق بمشقَّة أحْمالَك، وتردِّى أحْوالك! ورغم أننى لَمَحْت طَيْف رقيق إحساسك، وفصيح اعتذارك! ورغم أنك أنقذتنى بقرارك الحكيم من خِدْر إدمانِك!
سيدى أصَبْت تمامًا حين كَشَفْت لى فى النهاية كل أعدائى، وفضحت كل الأفاعى، التى تهزمنى طول الوقت، فنَجَحْت فى تَخطِّى أقسى تَعَب، رغم احتراق جزء منى؛ لأنه عن الماء والهواء احْتَجَب، بعد أن أجْرَيت الجِراحة الدقيقة، وسَحَبت السُّم المُميت، وانْتَزعت الفَتِيل الخطير، واسْتَأصَلت الجِذر الخَبِيث من نسيج بشريتى الأسِيرة، لتتحرر روحى الطليقة إلى الأبد.
عفوًا سيدى لن أصافِحك، ولن أرُدَّ السَّلام، لكن غدًا ولا محالة، سيحل على معبدى وحديقتى والدنيا كلها الفَرح والدِّفء والسَّلام، وفى يوم مشرق كرَسْمى وأفكارى ومشاعرى، سأقص على رفاقى أصل الحكاية، التى كانت ترويها لنا جدتى زمان، وهى الحذَر من مكائد الثَّعلب المكَّار، الذى أكل الخِراف السبعة فى وضحِ النهار.
وقفت الأم تعد وجبة الإفطار، وتلعب حولها خرافها السبعة الصغار، لكن فى مكان قريب كانت ترقبهم عين الذِّئب المكَّار، تراهم وليمة رائعة المنظر، شهية المذاق، تحلم بوضعها فى بطنها الفارغ، لتسْعَد، وتُودِّع جوعها المِغْوار.
يشرق الصبح بأشعته الساطعة، وتفتح الأم مستودع الطعام، لتجده خاليًا تمامًا، فلا تعرف أين ذهب؟! فتقرر أن تخرج لتجمع طعامًا جديدًا، بعد أن حذَّرت صغارها ألا يفتحوا الباب بِأيَّةِ حال، حتى لا يهجم الذِّئب الذى يأكل لحم الخائفين والضِعاف فى الحال.
فَرِح الذئب لنجاح الجزء الأول من خطته، وهى سرقة كل الطعام؛ ليجبر الأم على ترك خرافها، لكنه ظلَّ يتَدبَّر الحيلة الثانية، التى تُمكِّنه من دخول المنزل، ليلتهم كل الصغار.
خرجت الأم إلى الغابة، وغالَبَت الخراف وقتها فى اللعب، انتظارًا لعودتها، حاملة شتى الهدايا والطعام، لكنها تأخرت، فحاول الذئب خداعها مرات عديدة، إلا أنها كانت عن المنال بعيدة، لكنه أصَرَّ حتى تمكن منها مستبيحا، ثم ذهب قرب ضفاف النهر؛ ليستريح.
عادت الأم حاملة الكثير من الهدايا والطعام، فأخبرها طفلها الوحيد الذى نجى بمعجزة، كيف الْتَهَم الذئب المُخيف جميع إخوته الصغار! وهى تبكى مذعورة، وتطلب من الله المعونة، ثم خرجت مهرولة، فوجدت الذئب مسترخيًا على ضفة النهر، مُسْتَأنَسًا ألِيفا.
لاحظت حركة بطنه المنتفخة، فعلمت أن خرافها تَنَشَّبَت فى الحياة مُحْتَسِبَة، فطلبت من الابن أن يحضر لها أدوات الخياطة، ثم فتحت بطن الذئب بالمِقْراض، وهو فى النوم تَوْهان، وأخرجت صغارها بإتقان، ثم وضَعَت الحجارة بَديلاَ، وخَيَّطَت الجدار المتينَ.
غادرت الأم وخرافها المكان بسرعة، وصحا الذئب، وأحس أنه نام طويلا، وأزعجته ألَم الحجارة الثقيلة، وثَورة العطش الشديدة، فاقترب يشرب من النهر، فسقط، وغرق ذليلا، وفى النهاية احتفلت الأسرة الجميلة بهذه المناسبة السعيدة، وصنعت الأم الكعكة اللذيذة.
سيدى لم أكن أعلم أننى سأقابل ذات يوم ذلك الثَّعلب الخدَّاع؛ لحمًا، ودمًّا، وفِكرًا، وشِعرًا، دون أن أعْرِفه! أو أخْشاه! بل أتجاهل قُبح سلوكه وتصرفه، وأعشَق براءة دَهْشتَه وتَحيُّره، وأستعذب مُشاكَستِه، وأسْتأنس مُرافَقته، وتُضْحِكنى لطافَة روحه، وتُبهِرنى فِرط بلاغَته! يا لك من جَبَّار مُحْتال! ويا لجرأتى الخارقة!