١ـ ابتسامة المحبة التى شملت علاقتنا كلها:
بكيته كثيرًا وطويلًا ومريرًا عند فراقه، (مغادرته دنيانا ٤/٤/٢٠١٧).. بكيته كما لم أبك إلا قليلين. لم يكن «سمير فريد» صديقًا فحسب.. وإنما كان صديقًا حميمًا وأخًا حقيقيًا بكل معنى الكلمة، وأستاذا بأرقى ما فى الكلمة من معان.. وكنت أقول له: (إنك بالنسبة لى.. مثلما قرأت لك يومًا عن رجاء النقاش.. إذ كتبت تقول عنه: إنه أصغر أساتذتى وأقربهم وأحبهم إلى قلبى.. هل تذكر؟).. فيقول: «نعم أذكر».. ويبتسم، ابتسامة المحبة، التى ظل يشملنى بها عقودًا.. وكانت محبة جميلة متبادلة طول الوقت.. لم يؤثر عليها قط، وما نال منها على أى نحو، اختلافنا فى قضايا سياسية خلال السنوات الأخيرة. بل إن سمير فريد، منذ عرفته، منذ أول اللقاءات والتحاورات بيننا وكانت مبكرة جدًا، وكم كانت كثيرة جدًا: كان أكثر من عرفت فى حياتى، من حيث كونه مشجعًا وبوضوح شديد، على الاختلاف معه فى الرؤى.. وكان يؤكد باستمرار أن الديمقراطية ما وجدت أصلًا، سوى لأمر واقع، هو أن هناك آراء متباينة واتجاهات متعددة.. وهذا هو الطبيعى والمنطقى والمشروع!. لقد علمنى هذا، ضمن كثير علمنى إياه. وحينما كتب لى سمير فريد مقدمة كتابى «الطريق إلى سينما ٢٥ يناير» (عن الهيئة العامة لقصور الثقافة عام ٢٠١٤)، أشار إلى هذا الاختلاف بيننا، وخصوصًا مؤخرًا فى شئون سياسية.. وكان مما قال فى هذا، وفى ذات الوقت مما سأظل أعتز به ما حييت.. تفضل بأن كتب مثلًا: (طوال العقود الماضية تابعت بالإعجاب تطور كتابات محمد بدر الدين فى النقد السينمائى الأيديولوجى حتى أصبح أهم نقاد هذا الاتجاه بين نقاد جيله.
«ومن موقع الليبرالى، وهو مرة أخرى الذى لا يحتكر الحقيقة، أكتب تقديم هذا الكتاب الذى لا أتفق مع رؤية مؤلفه لتاريخ مصر بعد ثورة ١٩٥٢، ولكنه من أكثر البشر الذين عرفتهم نبلًا وطهرًا..).. إلى آخر ما تفضل كريمًا بذكره عنى، وبعض من كثير أظل ممتنًا له دومًا.. لكن هذا، كان يعنى نفس ما قلت، وهو: أن أى اختلاف لم يؤثر أو ينل قط من محبتنا الكبيرة المتبادلة، وكنت قد ذكرت عنه فى ندوة أدرتها عام ٢٠١٥ فى حضوره، احتفاء بمرور خمسين عامًا على بداية مشروعه النقدى وأولى كتاباته (فى ١٩٦٥)، فى جمعية نقاد السينما المصريين، قلت: (إن هذه السنوات الخمسين.. تنقسم، وفق رؤيتى ومتابعتى الدقيقة المنتظمة لكل كتاباته وكتبه ومواقفه: إلى ربع قرن كان فيه سمير فريد ناصريًا.. ثم ربع قرن صار فيه ليبراليًا.. وبطبيعة الحال، فمع التوجه إلى الليبرالية بدأ اختلاف لى معه، لكن ظل الاختلاف محدودًا، لأن سمير فريد ركز على شق «إطلاق الحريات» السياسى فى الليبرالية، وهو ما نتفق معه فيه كل الاتفاق، إلا أنه ظل بطبيعة رؤيته التقدمية الأصيلة ينبذ ويدين أى «مظالم رأسمالية» يؤدى إليها الشق الاقتصادى فى الليبرالية). كذلك، فقد التقيت بسمير فريد فى ميدان التحرير خلال ملحمة الثمانية عشر يومًا الأولى الغالية لثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، وقد كان فى كل كتاباته ومواقفه ومن أول يوم للثورة، متحمسًا لها لأبعد مدى ومساندًا بكل طاقته لكل حركة وآمال الشعب الثائر وطليعته.. وظل إلى آخر لحظة فى حياته مؤمنًا بهذه الثورة وحتمية انتصارها، ويرى أنها لم تهزم أو تنكسر، وإن كان مسارها يمر بجزر وتعثر.. حتى أن آخر كتبه كان بالأساس عنها فى السينما، وهو كتاب: (سينما الربيع العربي)، الذى احتفى حشد محب غير عادى ذات صباح بفصوله وبمؤلفه، فى ندوة عن الكتاب بمهرجان القاهرة السينمائى الأخير.. ذهب إليها سمير فريد وهو فى قلب فترة مرضه الأخير، لكنه كان متحاملًا وبإرادة صلبة معهودة لديه، وكبرياء وسمو جميل آسر عرف بهما.. وجاءنا مرة أخرى تالية فى جمعية نقاد السينما المصريين (التى أسسها فى ١٩٧٢)، لمناقشة كتابه الآخر الجديد «أفلام المخرجات فى السينما العربية»، ولدينا وخصوصًا الآن أنه ربما كان يوجد إحساس ما فى المرتين وعلى الأقل لدى البعض بمعنى وطعم «الوداع».. لكن (سمير) كان يعرف أنه لا يتركنا وأنه لن يبتعد، وأنه ترك فينا، وفى الثقافة الوطنية المصرية والعربية، كتبًا قيمة تتجاوز الخمسين كتابًا، سوف تقرأ وتدرس وتثمر، ترك مشروعًا نقديًا هو صرح كبير وجد ليؤثر وليتنامى عبر جيل فجيل، وترك مؤسسات ومعالم فى الثقافة السينمائية من جمعية نقاد السينما المصريين فى السبعينيات، وصولًا إلى مشروعه الثقافى السينمائى الضخم فى مكتبة الإسكندرية مرورا بالكثير، مما سوف يشع باستمرار وينير.
٢ - فى تكريم وتقدير سمير فريد:
كما يبقى أن التكريم الحقيقى لسمير فريد لمن يريد التكريم والتقدير حقًا ويعنيهما صدقًا هو العمل الحقيقى من أجل إنجاز «السينماتيك» (دار الأفلام على غرار دار الكتب، كما كان يشبه سمير دائمًا ويشير)..إن تكريمه وتقديره هما أن ننجز هذا (الأرشيف/الدار)، الذى تأخرنا كثيرًا جدًا جدًا فى مصر عن إقامته، والذى كافح وكتب سمير فريد مرارًا وتكرارًا، شارحًا وملحًا، من دون يأس أو نفاد صبر، فى ضرورة إنجازه.. واليوم قبل غدٍ، كتب عن ذلك على مدى مسيرته كلها، وصولًا.. حتى مؤخرًا وقد بدأ مرضه إلى مطالبته وزير الثقافة الحالي: بأنه من الميسر له تحقيق هذا المشروع.. وأن ذلك سوف يحسب له ويعتد بدوره فيه، بل أسهب سمير فى رسالته (عبر مقال «صوت وصورة» اليومى بجريدة «المصرى اليوم») حتى أنه حدد بدقة، المكان الذى يقترحه ليقام فيه المشروع، مع مختلف التفاصيل الضرورية!.. إن هذا هو التكريم والتقدير الأكبر اليوم لسمير فريد.
٣ - ما يعيدنا إليه.. الاحتفاء الكبير الحالى به: ثم يبقى هنا معنى، والحق أنه لا يخلو من روح أسف أو رنة أسى.. كم أود إيصاله، لكننا لن نجد أبدًا تعبيرًا عنه أدق وأوفق من فقرة فى مقدمة لمحمد حسنين هيكل، كاتب العربية الأكبر الذى سبق سمير فريد إلى «دار العودة» بقرابة عام، وهى مقدمة لكتاب عن المفكر التقدمى الكبير محمد سيد أحمد عقب رحيله (أصدرته دار الشروق فى عام ٢٠١٠)..الفقرة التى أعنيها لأستاذنا هيكل تقول:
• (إننى لست متحمسًا للطريقة التى نتبعها فى الاحتفال بالراحلين من أحبائنا، خصوصًا إذا كان هؤلاء الراحلون من المفكرين أو الكتاب، فنحن نكتفى بأن نخلع عليهم من الأوصاف مع ذهابهم ما سكتنا عنه فى حضورهم، ولو أنهم سمعوه فى أوانه لكان سندًا ودافعًا أكثر على الزيادة والعطاء، لكننا على الأقل أحيانًا نقتصد فى الحضور ونسرف فى الغياب..).
كما أنه ليس، فى الحقيقة، ما يمكن أن نقوله الآن عن.. وإلى: «سمير فريد»، أبلغ وأرق وأرقى، مما ختم به عميد الصحافة العربية والكتابة السياسية والتاريخية الأستاذ هيكل المقدمة ذاتها:
• (.. إن دور أى كاتب أصيل وكل مفكر خلاق يظل شعاعًا فى المستقبل، وليس كفنًا فى الظلمات. ثم دعونى، مشيرًا إلى نجم يلمع بعيدًا عند حافة الأفق، أقول له معكم:
ـ تحرك حول مدارك فنحن نراك.
ـ وتكلم عبر كتابك فنحن نسمعك).
وللحديث بقية.