اكتسب العلم، منذ أوائل القرن العشرين أهمية تفوق أهمية أى إنجاز آخر طوال تاريخ البشرية، صحيح أن الإنسانية تفخر بفلسفاتها وآدابها وفنونها، وتعترف بما تدين به لهذه الإنجازات من فضل في تشكيل عقل الإنسان وروحه، ولكن المكانة التي اكتسبها العلم في هذين القرنين العشرين والحادى والعشرين، والتأثير الذي استطاع أن يمارسه في حياة البشر، جعلنا نطلق بحق على عصرنا "عصر العلم والتكنولوجيا".
قد يتساءل المرء: "ما الذي نجنيه من العلم والتكنولوجيا؟" سوف تشير الإجابة عن الأرجح إلى أن العلم والتكنولوجيا هما مصدرا التقدم، والواقع أننا ندين بالكثير للمعرفة العلمية، فقد أسهمت في رقي الحياة، ووفرت أنواعًا جديدة من الحريات، وفوائد مادية جمة.
ولا شك أننا إذا أردنا أن نسرد فوائد العلم فلن ننتهي، فالقائمة طويلة لا تتضمن الأشياء التي نستمتع بها حاليًا فحسب، بل تتضمن أيضًا ما يمكننا أن نستمتع به مستقبلاً.
وإذا كان للعلم والتكنولوجيا تأثير إيجابي، فإن لهما أيضًا تأثيرات سلبية، فنحن نعلم أن كثيرًا من شئون عالمنا لا تسير على ما يرام، ولذا يرى البعض أن العلم مسئول عن زيادة معاناة البشر، أو على الأقل أخفق في تحقيق الآمال التي عقدها عليه أسلافنا الذين كانوا أكثر منا تفاؤلًا.
ولذا ينظر هذا البعض إلى العلم والتكنولوجيا لا بوصفهما مبعثي أمل، بل بوصفهما تهديدًا للآمال، وعلى ذلك نجد المفارقة الكبرى لعصرنا تتمثل في أننا استخدمنا العلم والتكنولوجيا لتحقيق المزيد من السيطرة على الطبيعة، حتى وصل بنا الأمر إلى أننا أصبحنا على شفا تدمير ما حققناه من مكاسب بالوسائل ذاتها التي حققنا بها هذه السيطرة، لقد دفعت هذه المفارقة الكثيرين للنظر إلى العلم بوصفه مشكلة وليس حلًا للمشكلات.
والمتأمل لموقف الإنسان العادي من العلم والتكنولوجيا يجد أن هذا الموقف ينطوي على شيء من التناقض، فهو يتوقع الكثير من العلماء، ومع ذلك يتخوف مما يُقدّم إليه من قِبَل هؤلاء العلماء، فهو يعقد آمالًا كبرى على أن يسهم استخدام الطاقة الذرية في تحقيق الرخاء الاقتصادي، بينما يرتجف هلعًا – في الوقت ذاته – من احتمال نشوب حرب نووية أو انتشار تلوث إشعاعي يأتي على الأخضر واليابس.
ومهما يكن من شيء، فإنه يمكننا القول بوجود فجوة بين ما يمكن للتطبيقات العلمية أن توفره من آلات وأدوات من جهة، وما يجنيه أفراد المجتمع من فوائد نتيجة لتقدم العلم في هذا المجال، لقد استطاع الغرب أن يصنع المعجزات على صعيد العلم والتكنولوجيا، لكن هل واكب هذا التطور العلمي الضخم تطور مماثل على صعيد الأخلاق؟ وهل يمكن أن يكون هناك بالفعل علم مفيد لا يأخذ في اعتباره أبعادًا إنسانية أو أخلاقية مهمة؟ إذ ما فائدة علم لا يجد طريقه إلى التطبيق لأجل إسعاد أو تخفيف معاناة البشر؟ وهل كان لكثير من المخاطر والمآسي أن تحدث لولا أن كثيرًا من العلماء حصروا أنشطتهم فى النتائج العملية للعلم دون اعتبار لأي أبعاد أخلاقيـة أو إنسانية؟
هذه التساؤلات وغيرها ارتبطت بمجموعة من الأفكار الأخلاقية الصعبة، وأثارت مشكلات لا يمكن أن تحل بمجرد مزيد من التطور فى العلم والتكنولوجيا، لأن هذا التطور نفسه يدخل ضمن أسباب الأزمة.
كما لا تحل بمواقف سياسية معينة، لأنها مشكلات تتصل بمعنى الحياة الإنسانية ذاتها، ومن ثمَّ تنتظر من الفلسفة أن تقدم عونًا كبيرًا، فالفلسفة وحدها هي التى يمكنها أن تعيد صياغة نظرتنا إلى كل جوانب الوجود والحياة.
اللافت للنظر أن العلم والتكنولوجيا صارا يطرحان في العقود الأخيرة مشكلات أخلاقية تثير الاهتمام وتستحق التمعن، مثل: الموت الرحيم، والاستنساخ، وكل ما ترتب على الثورة البيولوجية من مشكلات.
وبقدر ما يضيف العلم والتكنولوجيا إلى حصيلة المعرفة عندنا، ويزيدان من قدراتنا على التحكم في الأشياء، ويتيحان لنا خيارات جديدة على الدوام، نجدهما يثيران أيضًا قضايا جديدة تدور حول ما هو صواب وما هو خطأ، ما هو خير وما هو شر.. إلخ، أما المعايير التى تحدد صواب الأمور أو خطأها، خيرها أو شرها، فإنها صارت تنبع من حاجات الإنسانية الفعلية، لا من مصادر تقليدية بالضرورة، ففي عصر العلم المزدهر هذا، وفي زمن التكنولوجيا المتطورة والمعقدة، صار معيار الأخلاق يقترب من واقع الحال القائم بالفعل، وليس من مثاليات مفارقة، أي أن المعيار صار يدور حول ما هو إنساني ومعقول بدلًا مما هو مثالي ومأثور.
إن أحدًا لا يستطيع أن ينكر أن القيم الأخلاقية تكمن خلف فكر كل فرد من أفراد المجتمع، وتؤثر على قراراته الحياتية، سواء أكان طبيبًا أو محاميًا أو سياسيًا، لهذا نحن بحاجة إلى دراسة المشكلات الأخلاقية التي تواجه العاملين في مجال عملهم، ومن هنا تغيرت طبيعة فلسفة الأخلاق، وأصبح لها فرع مهم يسمى "الأخلاق العملية"، لا يحلل فقط؛ وإنما يسعى إلى إيجاد حلول لمواقف واقعية، أي أنه ينحو نحو التطبيق دون الاكتفاء بعملية التنظير، وبذلك نزلت الفلسفة إلى أرض الواقع، وأصبح لها دور إيجابي في حل المشكلات.
إن تطبيق المعرفة العلمية أمر يتطلب، بالبداهة، شيئًا من مقدرة الحكم على القيم، فبعد أن نتوصل، مثلاً، إلى معرفة كيفية إنتاج الديناميت وإلى إدراك خواصه، يبقى لنا أن نجيب عن السؤال التالي: هل نلقي بالديناميت من الطائرات لتدمير المتاحف والمساجد والكنائس والمدن؟ أم نلجأ لاستخدامه في شق الطرق عبر الجبال؟ كذلك الأمر في حال معرفتنا بمفعول بعض العقاقير والغازات، إذ يبقى أمامنا هنا أيضًا، أن نقرر ما إذا كنا سنستخدمها في تخفيف الألم والقضاء على الأمراض أم لفناء الشعوب الآمنة؟ وبعبارة مختصرة فإن التقدم العلمي الذي نشهد مظاهره القوية في هذه الأيام، سيضعنا أمام "طريق السلامة" و"طريق الندامة"، وليس لنا من خيار سوى السير في الطريق الأول، لأننا لو اخترنا الثاني لن نكون هناك لكي نندم.
حين نتحدث عن طريقة توجيه حياة الإنسان وتنظيم مجتمعه، نخوض مجال القيم والغايات الإنسانية، وهو مجال يهم البشر جميعًا، لا العلماء وحدهم، وفي مثل هذا المجال يكون من الصعب على العالِم أن يقدم إلينا توجيهًا كاملًا، لأن تكوينه يحول بينه وبين التعمق فيب أمور معنوية شديدة العمومية كتحديد الأهداف التى ينبغي أن يُسْتَغل العلم من أجلها.
ومهما يكن من شيء، فإن الشكوك المحيطة بالعلم والتكنولوجيا لا تعني بالضرورة رفضنا لهما، وكل ما هنالك أننا نريد أن نحقق نوعًا من التوازن بين إشباع احتياجاتنا ورغباتنا من ناحية، وبين الوسائل التكنولوجيا المستخدمة، فليس واردًا على الإطلاق أن يكف المجتمع عن دعم عجلة التقدم التكنولوجي، وإنما يجب أن نصر على استمرارية العلم والبحث العلمي، بشرط أن يقترن كل ذلك بأبعاد أخلاقية وإنسانية.