لم يغادر القاهرة إلى فرنسا؛ ليهجر مصر؛ بل لأن الأدباء الذين أحبهم يعيشون فيها، فمصر كانت تسكن معه فى الغرفة، وفى شوارع باريس، فالبشر هم البشر، ورغم مكانته فى الأدب الفرنسى، وتَصدُّر رواياته واجهات المكتبات الفرنسية، وترجمة أعماله إلى ١٥ لغة منها العربية، أصر دومًا على وصف نفسه بـ«الكاتب المصرى الذى يكتب بالفرنسية».
نَعَتْهُ فرنسا والوسط الأدبى الفرنسى، رغم رفضه الجنسية الفرنسية، وإصراره على الاحتفاظ بجنسيته وروحه المصرية، التى لم تغادره طوال ٦٠ عامًا قضاها بباريس، التى نشرت كل أعماله، واحتفت بها، ومنحته العديد من الجوائز، واعتبرته إضافة فريدة للأدب واللغة الفرنسية.
ترفض فلسفته غطرسة وجبروت السلطة؛ المتمثلة فى الحاكم أو فى الأخلاقيات المعتادة، وتثور على كل ما هو ثابت، وتغضب بشدة من فساد العالم، ومظهريته، وتكالبه على الامتلاك، والجرى وراء المال، دون الاستمتاع الحقيقى بالحياة، فالمال يُفْقِد الإنسان قيمته؛ لأنه يصير عبدًا له، وكلما كسب منه أراد المزيد، فى حين أن الفقر حرية؛ لأنك لا تخسر شيئًا لا تملكه!
من أجمل أقواله: (شكوى الإنسان «حقارة» إذا كان لا يزال على قيد الحياة)، (لست بحاجة إلى سيارة جميلة؛ لأثبت وجودى على كوكب الأرض، فهذه سعادة الحمقى! بل أسعد جدًا لأننى أعيش بلا بطاقة بنكية، ولا دفتر شيكات، وأستمتع بمساحة غرفتى الصغيرة فى صحبة الكُتب؛ والمفكرين؛ والفنانين؛ وعشق المرأة).
ولد ٣ نوفمبر عام ١٩١٣ بحى الفجالة بالقاهرة، لأسرة ثرية، لأبوين مصريين، أصولهما من الشوام الروم الأرثوذكس، وتلقى تعليمه فى مدارس «مسيحية» قبل أن ينتقل إلى مدرسة «الچيزويت» الفرنسية، فقرأ «بلزاك» و«موليير» و«ڤيكتور هوجو» و«ڤولتير» وغيرهم من كبار الكتّاب الفرنسيين الكلاسيكيين، ثم غادر مصر عام ١٩٤٥ إلى فرنسا، ولم يعد إليها مرة أخرى.
بدأ الكتابة فى سن العاشرة، ورغم أنه اختار الفرنسية وفرنسا، لغةً ووطنًا ثانيًا يعيش فيه، إلا أن مصر بقت هى عالمه الخاص ومسرح رواياته، والمصريون البسطاء هم شخصياته، وكان يردد دومًا: لست فى حاجة إلى أن أكتب بالعربية، أو أعيش فى مصر؛ لأنها فى داخلى، فهى ذاكرتى.
عاش من عائدات أعماله وكتابة السيناريوهات، لكنه لم يكن يكتب إلا عبارتين فقط فى الأسبوع، وهى فلسفته فى اقتصاد اللغة؛ لأنه يفضل البحث أيامًا طوالاً عن الكلمة المناسبة، التى تعبر بدقة عن الفكرة التى تراوده، وكان يقول: «حين نَملُك فى «الشرق» ما يكفى لنعيش منه، لا نعمل، بخلاف «أوروبا» التى حين نَملُك فيها الملايين، نستمر فى العمل؛ لنكسب أكثر».
يشبه أبطال رواياته فى خفة الدم، والبعد عن المتاجرة أو الدعاية أو النضال الزائف، والتسلح بحب الحياة، والانحياز للفقراء والمشردين والمنبوذين وكناسى الشوارع واللصوص والساقطات، والتعبير عن عالمهم وقيمهم، بل بذاءاتهم وعنفهم، فهم فى تصوره أشخاص متسامحون، رغم المستنقع الراكد المحيط بهم.
تطارد شخصياته «السعادة» أو «الحرية» طوال الوقت، رغم قسوة معاناتها اليومية، وترسم مصائرها، حينما ترفض كل القوانين والمسميات الفارغة، وتحافظ على آدميتها، وهو كنزها الوحيد القادر على بقائها فى مواجهة كل سخافات العالم، وانتهاكات المجتمع، ومحاولته تشويه نقائها الروحى، دون أن تقع فى بئر التضحية الساذجة أو إدمان اللعنة البائسة على الظروف.
جدوله اليومى سهل؛ لأنه قضى حياته أعزب، عدا زواج لم يَدُم طويلاً من ممثلة مسرحية فرنسية، وحينما سُئل عن «معنى السعادة»، قال: أن أكون بمفردى! لكنه تعرَّف فى فرنسا على «ألبير كامى» و«چان بول سارتر» و«لورانس داريل» و«هنرى ميللر»، الذين رافقوه يوميًا طوال ١٥ عامًا فى مقهى «كافيه دو فلور».
عاش طوال حياته فى غرفة رقم ٥٨ بفندق «لويزيان» فى الحى «اللاتينى» بباريس، ولم يملك شيئًا سوى ملابسه؛ لأنه كان يكرَه التَملُّك، يقول: (الملكية هى التى تجعل منك عبدًا!)، لذا لم يسع أبدًا لكسب النقود، بل العثور فقط على بعضها؛ ليعيش، حتى لو اقترض من أقاربه. تمسك بالحياة وأحبها حتى الموت، فلم يقهره المرض، فلا وقت عنده للدموع، بل للفَهْم، والفَرَح، فلم يَكُف أبدًا عن إلقاء النكات، رغم فَقْدِه القُدْرَة على الكلام والكتابة فى أيامه الأخيرة، بعد إصابته بسرطان الحنجرة سنة ١٩٩٨، لكنه لم يحزن، أو ينزعج، بل اكتفى بمشاهدة العالم، الذى كان يراه دومًا جميلاً؛ لأن القيمة الحقيقية فى تصوره هى الحياة ذاتها، أما فقدان الصوت، فهى مسألة تفصيلية.
سأله صحفى فى حوار معه بمجلة «لير» الفرنسية قبل سنوات من وفاته: إذا قابلت الله، ماذا تحب أن تقول له؟! فقال: إنى فخور بك، ثم سأله: كيف تفضل أن تموت؟! فرد: على فراشى بغرفة الفندق، فهل كانت أمنية أم نبوءة؟! لست أدرى! لكنه توفى فى ٢٢ يونيه عام ٢٠٠٨، وحيدًا، عن عمر ناهز ٩٤ عامًا، على فراشه، وفى غرفته بالفندق، الذى قضى به ٦٠ عامًا، مدافعًا عن الوِحْدَة، والتَّفَرُّد، والمُهَمَّشين.
إنه «ألبير قصيرى» الذى لُقِّب بـ«ڤولتير النيل» و«أوسكار وايلد» الفرنسى، وهو كاتب نادر؛ لأنه كان يكتب رواية واحدة كل ١٠ سنوات، لكن بلا جدال يُعد كل «كِتاب» له جوهرة ثمينة، تُمجِّد «بالفرنسية» الحياة فى الشرق، وعيشَة البسطاء فى مصر، الذين يواجهون كل لحظة بشاعة واقعهم بمرح وأمل وتحدٍ، وهى حكمة آمن بها، ومارسها فى باريس طول الوقت.