يستمر فقه العنف وخطاب الكراهية في العمل على السيطرة والهيمنة على العقل الإسلامي، عند ابن حجر الهيتمي، وقد صنف كتابين لهذا الخطاب المتطرف.
الأول هو كتاب (الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة)، والثاني هو (تطهير الجنان واللسان عن الخطورة والتفوه بثلب معاوية بن أبي سفيان).
فيقول ابن حجر في مقدمة كتابه هذا: سئلت قديما في تأليف كتاب يبين حقية خلافة الصديق وإمارة ابن الخطاب فأجبتُ إلى ذلك مسارعة في خدمة هذا الجناب، ثم سئلت في إقرائه في رمضان سنة خمسين وتسعمائة بالمسجد الحرام لكثرة الشيعة والرافضة ونحوهما الآن بمكة المشرفة، فأجبت إلى ذلك رجاء لهداية بعض من زل به قدمه عن أوضح المسالك، ويصف ابن حجر كتابه بقوله: فجاء كتابًا في فنه حافلا ومطلبًا في حلل الرصانة والتحقيق رافلا ومهندا قاصما لحجج المبطلين وأعناق شرار المبتدعة الضالين.
وحشد ابن حجر في مقدمته كما من الروايات التي ترهب المخالفين من المبتدعة الضالين المنسوبة لرسول رب العالمين (صلى الله عليه وسلم).
الأولى رواية تقول: أهل البدع شر الخلق والخليقة.
والثانية تقول: أصحاب البدع كلاب النار.
والثالثة تقول: من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام.
والرابعة تقول: إذا مات صاحب بدعة فقد فتح في الإسلام فتح.
والخامسة تقول: لا يقبل الله لصاحب بدعة صلاة ولا صوما ولا صدقة ولا حجا ولا عمرة ولا جهادا ولا صرفا ولا عدلا يخرج من الإسلام كما تخرج الشعرة من العجين.
وبالطبع المقصود بأصحاب البدعة هم المخالفون للفقهاء والنهج السائد من أصحاب الاتجاهات الأخرى من داخل أهل السنة ومن خارجهم. (41) وقد حشد ابن حجر بعد ذلك كما هائلا من الروايات التي تهاجم المخالفين والناظرين بعقولهم في حركة الصحابة، وما جرى بعد وفاة الرسول (ص) من خلافات وصدامات، مؤكدا من خلال هذه الروايات أن فترة الصحابة فترة مقدسة، وأن ما جرى فيها لا يخرج عن كونه صورة من صور الاجتهاد المحمود شرعا، وأن الناقدين لتلك الفترة سواء كانوا من الشيعة أو من غيرهم هم مبتدعة زنادقة، كما حدد ذلك مسبقا على غلاف كتابه.
يقول ابن حجر: وإنما افتتحت هذا الكتاب بالصحابة وختمته بهم، إشارة إلى أن المقصود بالذات من تأليفه تبرئتهم من جميع ما افتراه عليهم أو على بعضهم من غلبت عليهم الشقاوة وتردوا بأردية الحماقة والغباوة ومرقوا من الدين واتبعوا سبيل الملحدين وركبوا متن عمياء وخبطوا خبط عشواء فباءوا من الله بعظيم النكال، ووقعوا في أهوية الوبال والضلال ما لم يداركهم الله بالتوبة والرحمة.
ومن الواضح مدى تطرف هذا الكلام في حق المخالفين تجاه قضية محيطها الرجال وهي ليست أصلا من أصول الدين، لكن المسألة في الأساس ليست مسألة صحابة وإنما هي مسألة حكام يتسترون بالصحابة، ويعتبرون محاولة التشكيك في الصحابة تعني التشكيك في شرعيتهم.
أو بصورة أخرى المسألة في أساسها تنحصر في معاوية وتدور من حوله بمعنى أن التشكيك في الصحابة سوف يقود إلى التشكيك في معاوية، والتشكيك في معاوية سوف يقود إلى التشكيك في الحكام بعده فجميع الحكام أمويون وعباسيون وغيرهم ساروا على سنة معاوية.
يقول ابن حجر: اعلم أن الذي أجمع عليه أهل السنة والجماعة أنه يجب على كل مسلم تزكية جميع الصحابة بإثبات العدالة لهم، والكف عن الطعن فيهم والثناء عليهم، ومن اعتقاد أهل السنة والجماعة أن ما جرى بين علي ومعاوية من الحروب لم يكن لمنازعة معاوية لعلي في الخلافة، فلم تهج الفتنة بسببها وإنما هاجت بسبب أن معاوية ومن معه طلبوا من على تسليم قتلة عثمان إليهم لكون معاوية ابن عمه.
ومن اعتقاد أهل السنة أن معاوية من المجتهدين له أجر على اجتهاده، وأما ما يستبيحه بعض المبتدعة من سبه ولعنه فلا يلتفت إلى ذلك ولا يعول عليه فإنه لم يصدر إلا من قوم حمقى جهلاء أغبياء طغاة لا يبالي الله بهم بأي واد هلكوا، فلعنهم الله وخذلهم أقبح اللعنة والخذلان، وأقام على رءوسهم من سيوف أهل السنة وحججهم المؤيدة بأوضح الدلائل والبرهان ما يقمعهم عن الخوض في تنقيص أولئك الأئمة والأعيان، ولقد استعمل معاوية عمر وعثمان وكفاه ذلك شرفا .أ.ه.
إن الدفاع عن معاوية في نظر ابن حجر والفقهاء إنما هو دفاع عن الدين، وقد استتبع هذا الدفاع دفاعا عن ولده يزيد، حيث إن الطعن في يزيد طعن في والده.
يقول بن حجر: ولا يجوز الطعن في معاوية لأنه من كبار الصحابة ولا يجوز لعن يزيد ولا تكفيره فإنه من جملة المؤمنين وأمره إلى مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه.
ونقل ابن حجر قول الغزالي: ويحرم على الواعظ وغيره رواية مقتل الحسين وحكاياته وما جرى بين الصحابة من التشاجر والتخاصم، فإنه يهيج على بعض الصحابة والطعن فيهم وهم أعلام الدين، فالطاعن فيهم مطعون طاعن في نفسه ودينه.
وروى ابن حجر قصة وقعت في عام (755 هـ) أنه أحضر شخصا بدمشق أتهم بسبب الشيخين (أبو بكر وعمر) فأخذ وسجن والأغلال في عنقه، ثم قدم للقاضي المالكي فضربه وهو مصر على قوله.
ثم تكرر ضربه واستتابته فلم يرجع عن قوله، فاجتمع الفقهاء والقضاة للبحث في كفره وعدم قبول توبته، وحكم بقتله، وشنع السبكي على من قال أن هذا الرجل قتل بغير حق، وجزم بأنه قتل بحق لأنه كافر مصر على كفره.
وقدم ابن حجر الروايات والفتاوى التي تؤيد كفره وجواز قتله وصواب الحكم الذي صدر فيه.
والثابت أنه لا يوجد نص في القرآن أو في السنة يقول صراحة بقتل الذي يسب الرسول، فضلا عن الذي يسب صحابي، والفقهاء في حالة صاحب هذه القصة قد طبقوا عليه أحكام المرتد عن الدين، وكأن الصحابة أصبحوا ركنا من أركان الإسلام.
ويبدو أن ابن حجر لم يقنع بما أحدثه كتابه المسمى بالصواعق من خسائر وأضرار في المسلمين وعقولهم ودينهم فعمل على تصنيف كتاب آخر ضد خصوم معاوية والطاعنين فيه كي يسكتهم إلى الأبد.
يقول ابن حجر: فهذه وريقات ألفتها في فضل سيدنا معاوية بن أبي سيفان رضي الله عنه وأرضاه وفي مناقبه وحروبه، وفي الجواب عن بعض الشبه التي استباح سبه بسببها كثير من أهل البدع والأهواء جهلا واستهتارا بما جاء عن نبيهم (صلى الله عليه وسلم) من المبالغة الأكيدة في التخدير عن سب أو نقص أحد من أصحابه، لا سيما أصهاره وكتابه ومن بشر بأنه سيملك أمته، ودعا له بأنه يكون هاديا مهديا، دعاني إلى تأليفها الطلب الحثيث من السلطان همايون أكبر سلاطين الهند وأصلحهم وأشدهم تمسكا بالسنة الغراء ومحبة أهلها وما نسب إليه مما يخالف ذلك، فبفرض وقوعه منه تنصل منه التنصل الدافع لكل ريبة وتهمة، كما يقطع بذلك التواتر عنه في أواخر أمره كأوله بل حكى لي من هو في رتبة مشايخ مشايخنا من بعض أكابر بني الصديق عنه أنه مكث أربعين سنة لا ينظر إلى السماء حياء من الله تعالى، وأنه إنما يأكل من كسب يده، وأن من قدم عليه من علماء أهل السنة بالغ في تعظيمه بما لم يسمع عن غيره ككثرة التردد عليه ومع سعة ملكه وأبهة عسكره جالسا بين يديه على التراب كصغار طلبته مطلقا عليه من الأرزاق والإنعام ما يلحقه بأكابر الأغنياء، وسبب طلبه ذلك أنه نبغ في بلاده قوم ينتقصون معاوية وينالون منه وينسبون إليه العظائم مما هو بريء منه لأنه لم يقدم على شيء مما صح عنه إلا بتأويل يمنعه من الإثم بل ويوجب له خطأ من الثواب، فأجبته إلى ذلك
ويستطرد ابن حجر الهيتمي: ولا يشك أحد أن معاوية من أكابرهم نسبا وقربا منه (ص) وعلما وحلما فوجبت محبته لهذه الأمور التي اتصف بها الإجماع، فمنها شرف الإسلام وشرف الصحبة وشرف النسب وشرف مصاهرته له (ص) المستلزمة لموافقته له (ص) في الجنة ولكونه معه فيها وشرف العلم والحلم والإمارة ثم الخلافة، وواحدة من هذه تتأكد المحبة لأجلها فكيف إذا اجتمعت، وهذا كاف لمن في قلبه أدنى إصغاء للحق وإذعان للصدق.
وهذا الدفاع المستميت من ابن حجر عن معاوية يشوبه الضعف والخلل والتناقض. فهو أولا قد حشد عشرات الروايات التي تمدح معاوية وتزكية على لسان الرسول (ص) وهي جميعها روايات ضعيفة وموضوعة واجماع أئمته من أهل الفقه والرواية على أنه لم تصح في معاوية منقبة وهذا ما شهد به البخاري وشارحه ابن حجر العسقلاني وإسحاق بن راهويه أستاذ البخاري.
وقد تدارك ابن حجر الأمر وسد الباب أمام الشاكين في هذه الروايات بقوله: فإن قلت هذا الحديث المذكور سنده ضعيف فكيف يحتج به؟
قلت: الذي أطبق عليه أئمتنا الفقهاء والأصوليون والحفاظ أن الحديث الضعيف حجة في المناقب.
هكذا حسم ابن حجر المسألة بكل بساطة مع ما تحمل من استخفاف بالعقل وبالدين في آن واحد ومن الطبيعي أن يكون هذا توجه من جعل نفسه في خدمة الحكام وسخر النصوص لدعمهم وإضفاء المشروعية عليهم.
وتأمل ثناء ابن حجر على همايون الهندي الذي كتب كتابه في معاوية بتوجيه منه وذلك لقمع الذين ينتقصون معاوية في بلاده، أي أن ابن حجر رسخ علمه وفقهه ودينه لحاكم الهند ليسلطه على شعبه، وهو قد صنع هذا الكتاب تقربا إلى الله ونصره لحاكم موال لأهل السنة خصما لأهل البدعة فمقياس الحاكم الصالح في نظر الفقهاء أن يكون ملتزما بمذهبهم، ومقياس الفقيه الصالح في نظر الحكام أن يكون مواليا لهم رهن إشارتهم باطشا بخصومهم مكفرا لهم.
ويسلط ابن حجر مدافعه على خصوم معاوية بقوله: أولئك كالأنعام بل هم أضل سبيلا فلا يتأهلون لخطاب ولا يوجه إليهم جواب لأنهم معاندون وعن الحق ناكثون بل أشبهوا كفار قريش في العناد والبهتان حتى لم تنفع فيهم معجزة ولا قرآن، وأنما النافع لهم القتل والجلاء عن الأوطان كيف وهم لا يرجعون لدليل وشفاء العليل منهم كالمستحيل.
وهذا الكلام شديد التطرف من قبل ابن حجر تجاه خصوم معاوية هو بمثابة فتوى أو بمعنى أصح قذيفة موجهة على المسلمين يهبها الفقهاء للحكام ليقمعوا به المعارضة التي يتزعمها المبتدعة والزنادقة.
ويستمر ابن حجر في إطلاق تلك الفتاوى المحرضة والمتطرفة على المخالفين بقوله: أحذر أيها الموفق أن تسترسل مع مبتدع في جدل أو خصام، فإنك لو أقمت عليه الحجج القطعية والأدلة البرهانية والآيات القرآنية لم يصغ إليك واستمر على بهتانه وعناده لأن قلبه أشرب حب الزيغ عن سنن أهل السنة وخلفاء التوفيق والمنة اقتداء بكفار قريش الذين لم ينفع فيهم حجة ولا قرآن بل عاندوا إلى أن أفناهم العناد والسنان.
وهكذا يطلق ابن حجر تلك الفتاوى مدمرا جميع الوسائل السلمية من حوار ونقاش ومناظرة وعقل وتبادل رأي ومدمرا معها المخالفين من الزنادقة والمبتدعة فهم ككفار قريش لا يصلح معهم إلا السنان.
وابن حجر يريد بهذا أن يعفي المسلمون مؤنة النقاش والحوار واستخدام العقل مع الخصوم والمخالفين بقتلهم وإفنائهم أو تشريدهم في الأرض فهذا هو الحل الشرعي الذي أوجبته الروايات وفتاوى السلف أو بمعنى أكثر وضوحا هو الحل الذي يحوز على رضا الحكام حماة أهل السنة شعب الله المختار الذين خلقهم الله ليكونوا سادة الأرض ومالكيها وحكامها بينما كتب الدمار والهلاك على مخالفيهم في الدنيا والآخرة.