ليس تفجير الكنائس والاعتداء على المسيحيين وليد اليوم بل إنه ولد في التراث الفقهي الإسلامي منذ تأسيسه، ولم يلتفت أحد إلى
مناقشة هذا التراث ونقده لهالة القداسة التي تحيط به من ناحية ومن ناحية أخرى، فقد
أصبح على حد قول الأزهر ما يمثل ما هو معلوم من الدين بالضرورة، حتى أنه صارت
المقالات الفقهية محل تقديس وكأنها وحي من السماء، وعملت عملها في المجتمع فصارت
ضمن العادات والتقاليد التي تحض على الكراهية والعنف، خصوصًا بعد الانفتاح وتهجير
العمالة المصرية إلى دول النفط، فعادوا محملين بهذه الثقافة الإقصائية، وموضوع
اليوم عن ابن القيم الذي سار منهج استاذة ابن تيمية، وحمل راية الحنابلة من بعد
وفاة أستاذه وأطلق نيرانه وفتواه على الخصوم، وسار على سنة أستاذه، إلا أنه لم
يصمد طويلا وسلك سبيل التأليف بعيد عن الصدام والمواجهة بعدما نال من الاضطهاد
والمحن على يد الفقهاء من أصحاب المذاهب الأخرى وحلفائهم من حكام المماليك.
وسلك ابن القيم نفس منهج إمامه ابن حنبل وأستاذه ابن تيمية في
مواجهة المعارضين معتمدا على الروايات وأقوال سلفه وشعاراتهم التي رفعوها وبدا
وكأنه صورة طبق الأصل من ابن حنبل وابن تيمية، إلى أن تجاوز ابن القيم هذا الدور
واجتهد في تصنيف المخالفين وإصدار الأحكام فيهم، ليس هذا فقط بل سلط فتواه وهجومه
على الآخر الديني في كتابه (أحكام أهل الذمة) الذي يعد تأسيسًا للطائفية والعنصرية
التي عانينا منها وما زلنا نعاني حتى الآن، فإن حرق الكنائس في مصر وقتل المسيحيين
والتعريض بهم وتهجيرهم، كل هذه الممارسات إنما تستند لهذه الفتاوى وتلك المرويات
التي دشنها ابن القيم في كتابه هذا، وأول هذه الروايات رواية تقول: لا خصاء في
الإسلام ولا كنيسة. وهذه الرواية منسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم.
وثاني هذه الروايات منسوبة لابن عباس قال: أيما مصر مصرته العرب
فليس للعجم أن يبنوا فيه ولا يضربوا فيه ناقوسًا ولا يشربوا فيه خمرًا ولا يتخذوا
فيه خنزيرًا، وأيما مصر مصرته العجم ففتحه الله على العرب فنزلوا فيه فإن للعجم ما
في عهدهم وعلى العرب أن يوفوا بعهدهم ولا يكلفوهم فوق طاقتهم.
وثالث هذه الروايات منسوبة لعمر بن عبدالعزيز أن عمر كتب أمرًا
بهدم الكنائس التي في أمصار المسلمين.
ورابع هذه الروايات عن الحسن تقول: من السنة أن تهدم الكنائس
التي بالأمصار القديمة والحديثة.
وخامس هذه الروايات تقول: سئل ابن حنبل عن البيعة والكنيسة تحدث
- أي تبنى من جديد - فقال: يرفع أمرها إلى السلطان، أي ليأمر بهدمها.
وسادس هذه الروايات رواية منسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم
تقول: لا تكون قبلتان في بلد واحد. وأخرى تقول: لا تبنى كنيسة في الإسلام ولا يجدد
ما خرب منها.
وهذه الروايات وغيرها مما تكتظ به كتب السنن فيما يتعلق بأصحاب
الديانات الأخرى موضع شك فقهاء الحديث، وعلى الرغم من ذلك يسترشد بها الفقهاء. كما
أن هذه الروايات جميعها رويت عن طريق أحمد بن حنبل.
إن الدارس لكتاب ابن القيم بتلك الخلفية التي تقدس النصوص والأشخاص،
ليخرج بعد قراءته لهذا الكتاب ناقمًا حاقدًا على الآخر عدواني تجاهه، يخرج بعد
قراءة هذا الكتاب عنصري بامتياز.
ثم حشد ابن القيم بعد هذه الروايات كما من فتاوى الفقهاء التي
ترتكز على هذه الروايات وغيرها من الروايات التي تتعلق بالموضوع.
وجميع هذه الفتاوى تتركز في دائرة منع بناء الكنائس ومنع
ترميمها والعلاقة بين الحاكم والذمي وأورد ابن القيم في كتابه الشروط التي يلتزم
بها أهل الذمة في ديار الإسلام وهي:
* ألا يحدثوا في مدينتهم ولا فيما
حولها ديرًا ولا كنيسة ولا صومعة راهب ولا يجددوا ما خرب..
* أن لا يمنعوا كنائسهم أن ينزلها أحد
من المسلمين ثلاث ليال يطعمونهم..
* أن لا يئووا جاسوسًا ولا يغشوا
المسلمين ولا يمنعوا ذوي قراباتهم من الإسلام إن أرادوا..
* أن يوقروا المسلمين وأن يقوموا لهم
من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس..
* أن لا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من
لباسهم وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم..
* أن لا يتقلدوا سيفًا ولا يظهروا
صليبًا ولا شيئًا من كتبهم في شيء من طريق المسلمين..
* أن لا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في
كنائسهم..
* أن لا يعلموا أولادهم القرآن ولا
يرفعوا أصواتهم مع موتاهم..
* أن لا يجاوروا المسلمين بموتاهم وأن
يجزوا مقادم رءوسهم..
فإن خالفوا شيئا مما شرطوه فلا ذمة لهم وقد حل للمسلمين منهم ما
يحل من أهل المعاندة والشقاق.
قال ابن القيم وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها - أي محاولة
إثبات صحتها من حيث السند - فإن الأئمة تلقوها بالقبول وذكروها في كتبهم واحتجوا
بها ولم يزل ذكر الشروط العمرية - نسبة إلى عمر بن الخطاب صاحب الشروط السابقة -
على ألسنتهم وفي كتبهم وقد أنفذها بعده الخلفاء وعملوا بموجبها.
وقسم ابن القيم في كتابه البلاد التي تحوي أصحاب الديانات
الأخرى إلى ثلاثة أقسام:
الأول: بلاد أنشأها المسلمون في الإسلام..
الثاني: بلاد أنشئت قبل الإسلام فافتتحها المسلمون عنوة وملكوا
أرضها وساكنيها.
الثالث: بلاد أنشئت قبل الإسلام وفتحها المسلمون صلحًا..
والقسم الأول الثاني لا يجوز أن تبنى كنيسة ولا بيع فيه وما بني
يهدم ويلزم بالشروط السابق ذكرها، أما القسم الثالث فيقر على حاله وما بني بعد
الصلح يهدم.
يقول ابن القيم: وهذا الذي جاءت به النصوص والآثار هو مقتضى
أصول الشرع وقواعده فإن إحداث هذه الأمور إحداث لشعائر الكفر وهو أغلظ من إحداث
الخمارات والمواخير، فإن تلك شعار الكفر وهذه شعار الفسق، ولا يجوز للإمام أن
يصالحهم في دار الإسلام على إحداث شعائر المعاصي والفسوق، فكيف إحداث مواضع الكفر
والشرك.
ومثل هذه الروايات التي استند عليها ابن القيم والفتاوى التي
استحضرها هي التي ارتكز عليها حنابلة العصر من الجماعات الإسلامية واستباحوا دماء
وأموال المسيحيين على أساسها مرتكزين على أن المجتمع المعاصر يعد حسب المفهوم
الفقهي الذي وضعه الفقهاء: دار حرب لا يوجد فيها إمام ولا توجد بين المسلمين
والمسيحيين عقود ذمة تحفظ على أساسها أموالهم ودمائهم فمن ثم هم عرضه للاستحلال من
قبل هذه الجماعات التي جعلت من نفسها قيمًا على الدين ومعبرا عنه وناطقة بلسانه
وقد منحتها هذه الصلاحيات عقيدة أهل السنة ونصوص الفقهاء، وعجز فقهاء العصر
وتحالفهم مع الحكام من جانب آخر.
مثل هذا الفقه المتطرف الذي بني على روايات ضعيفة وعلى الأعراف
وقرارات الحكام يجب أن يعاد ضبطه مع القرآن، وهو لن ينضبط معه بحال، فالقرآن لم
ينص على شيء من هذا تجاه الديانات الأخرى.
هذا الفقه إنما هو وليد مرحلة سياسية خاصة هي مرحلة الحروب
والغزوات وليس وليد النصوص.
آراء حرة
خطاب العنف والدم.. ابن القيم وتفجير الكنائس
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق