شىء عظيم ورائع أن يحرص المسئولون فى بلادنا على إقامة مدن جديدة وحفر القنوات وتشييد الجسور وتمهيد الشوارع، غير أن هذا وحده لا يكفى، كل هذا لن يجدى نفعًا فى غياب رؤية واضحة ومتكاملة لبناء الإنسان.
الإنسان هو الثروة الحقيقية، وهو الرافعة القوية لبناء الأمة، هذه الحقيقة الساطعة سطوع الشمس لا تراها أعين حكَّامنا الذين ينظرون إلى الكثافة السكَّانية بوصفها عبئًا و«مصيبة سوداء»، فى حين أن دولًا كالصين، مثلًا، استثمرت ثروتها البشرية الضخمة استثمارًا حقق لها قوة التقدم والازدهار.
بناء الإنسان لا يتحقق بالكلام المعسول والألفاظ الرنانة والأغانى والأهازيج، وإنما بالتخطيط العلمى للمستقبل، واستغلال الطاقات المتدفقة للشباب فى البناء والتنمية حين أتأمل التجمعات الشبابية داخل الجامعة وخارجها، أقول لنفسى بصدق ويقين:
«لن تتحقق لكِ يا مصر نهضة، ولن تقوم لكِ قائمة إلا إذا قيَّدَ الله لكِ حاكمًا أدرك أهمية الشباب وتعليمه وتدريبه وتأهيله للعمل للنهوض بالوطن».
شباب مصر هم ثروتها الحقيقية، ينبغى على الحاكم أن يعمل على أن يكون هؤلاء الشباب «لمصر لا عليها»، يجب أن يكون الشباب نعمة لهذا الوطن لا نقمة عليه، تقدم وازدهار البلاد يقاس بمدى استغلال الثروة البشرية وفقًا لخطط تنمية محددة، أما العشوائية فى القرارات، والبطالة، وفساد التعليم، وغياب القدوة الحسنة، فهى مجتمعة تجعل الشباب يهيم على وجهه فى هذه الحياة كالأنعام التائهة دون ذنب ارتكبوه، بل يحفزهم هذا المناخ السيئ إلى ارتكاب الذنوب والجرائم الحقيقية وعلى رأسها الانخراط فى تشكيلات إرهابية مجرمة كارهة للوطن.
لأمن وأمان أى وطن لا بد من توافر القدوة الحسنة وتفعيل القوانين بتطبيقها على الكافة، الكبير قبل الصغير.
وجود ترسانة من القوانين فى بلد ما ليست له أية دلالة على رقى وتقدم ذلك البلد، فقد تكون هذه القوانين غير مُفـَعَّلة كما هو الحال فى مصر وفى كثير من الأحيان لا تلقى هذه القوانين احترامًا، فنجد الوزير والمدير لا يأبه بحكم نهائى صادر من محكمة إدارية أو دستورية عليا، ويرفض تنفيذه، وليس ببعيد ذلك الرئيس الأسبق لمجلس الشعب الذى كان يردد دائمًا مقولته الشهيرة: «المجلس سيد قراره».
كان ذلك الرجل يقصد ألا أحد يملى على مجلس الشعب قرارًا، وهى قولة حق أريد بها باطل، كان الهدف هو حماية أعضاء مجلس الشعب الذين نجحوا بالتزوير، كان الرئيس الأسبق لمجلس الشعب يردد مقولته تلك كى يرفض تنفيذ حكم صادر ببطلان عضوية عدد من نواب مجلس الشعب، لارتكابهم مخالفات أو غير ذلك مما استوجب الحكم ببطلان عضويتهم.
«رئيس مجلس الشعب» مقام رفيع فى الدول، ومع ذلك يستهتر بالقانون، ويستهين بحكم نهائى صادر من محكمة عليا، ويرفض تنفيذ الحكم، ثم نندهش ونتعجب، بعد ذلك، من سائق الميكروباص الذى يعربد بمركبته فى الشارع!!
مثل هذا السائق الذى نستهجن ما يقوم به من مخالفات بطبيعة الحال قد لاحظ أن القانون فى بلادنا يداس بالأحذية من قـِبَل كبار المسئولين بالدولة، وكم من أحكام نهائية صدرت فى حق مسئولين ولم تنفذ، وكم وزير أو مدير أو رئيس مجلس إدارة أو رئيس جامعة أو عميد كلية أو وكيل كلية تصرف فى المؤسسة التى يشرف على إدارتها بوصفه الحاكم بأمره ضاربًا بكل القوانين عرض الحائط.
هذا فضلًا عن أن تطبيق القوانين على الجميع بحزم وصرامة، يساهم فى القضاء على مشكلة الفساد الذى استشرى فى البلاد، بسبب شعور الفاسدين بأنهم فى مأمن من أن يخضعوا لطائلة القانون، وقد انعكس ذلك على سلوك المواطن العادى، وألقى بظلاله على تصرفاته وسلوكه العام، فالناس فى بلادنا لا يكرهون شيئًا قدر كراهيتهم للفساد والفاسدين، ويدركون أن جرائم الفساد تستنزف ميزانية الدولة وثروات البلاد، ورغم ذلك يحجم المواطن ويفكر ألف مرة قبل الإبلاغ عن هذه الجرائم، بل يمتنع أصلًا عن الإبلاغ عنها، لأنه ليس على ثقة أن الفاسد سيعاقب، وإذا حدث، فى أفضل الحالات تفاؤلًا، أن قـُدّمَ ذلك الفاسد إلى العدالة، وصدر ضده حكم قضائى، فإن المواطن فى بلادنا ليس على ثقة بتنفيذ هذا الحكم أو تفعيله.
بل إن ما يحدث على أرض الواقع، هو فى أغلب الأحيان الاضطهاد والتنكيل بمن قام بالإبلاغ عن واقعة الفساد.
خلال الأسبوع الماضى، أبلغنى أحد الزملاء أنه رصد واقعة فساد داخل كليته، وتقاعس عن الإبلاغ عن تلك الواقعة، رغم تشجيعى له على ضرورة الإبلاغ، فإنه أصر على الامتناع عن التقدم بكشف تلك الواقعة للمسئولين فى الجامعة، كما رفض أيضًا أن يزودنى بالمستندات كى أتقدم بها أنا للمسئولين بدلًا عنه، فرفض ذلك أيضًا، إنه أستاذ كبير خشى من عاقبة الإبلاغ عن فساد، فما بالنا بمواطن عادى، يعمل فى مؤسسة ما يتقاضى راتبًا محدودًا يكفيه وأسرته بالكاد تصادف أن وقعت تحت يدى هذا المواطن مستندات تكشف عن واقعة فساد داخل المؤسسة التى يعمل بها، من المؤكد أنه سوف يتردد، بل سوف يمتنع عن الإبلاغ عن تلك الواقعة خشية العواقب.
من الحقائق الثابتة أن الشعوب المقهورة لا تصنع حضارة، لأن المواطن الحر يكون دومًا سندًا ودعمًا للحاكم العادل، فى حين أن المواطن الذى لا يشعر بالطمأنينة بسبب غياب القانون سوف يسلك وفقًا للمبدأ القائل: «أنا مالى»!!
لا شك أن بناء الإنسان أهم وأبقى من بناء الطرق والكبارى، احترام القوانين وقيام المسئولين بإعطاء القدوة الحسنة فى الخضوع للقوانين والانصياع لها، يرسخ فى الإنسان قيمًا رفيعة تضبط سلوكه، وتوجهه إلى خدمة وطنه والحرص على النهوض به.