بين فترة وأخرى، تطل الفتنة برأسها من جديد، يتحدث البعض وللأسف الشديد عن «مُصالحة» مزعومة، مع جماعة الإخوان، هؤلاء المجرمون القتلة، ونقول لهم بكل وضوح: لا تأخذنا فى الله لومة لائم، لن نتصالح على الدم حتى بدم، لن نتصالح ولو قيل: رأس برأس، فليس كل الرءوس سواء..
ويوهمنا البعض بمعلومات تتحدث عن لقاءات تتم بين رموز ومسئولين أمنيين وبين عناصر من الجماعة الإرهابية، ورغم علمنا بأن هذه المعلومات محض خيال إلا أننا نعلم أيضًا أن هناك من يدفع فى هذا الاتجاه، ويحاول أن يطرح بالونة اختبار ليتعرف البعض كيف يستقبل الناس فى بلادى هذه الفكرة، والسؤال هو كيف يقبل رجل فى مصر -وأنا هنا أخاطب الرجال بالمعنى لا بالجنس ففى مصر نساء كالرجال وأكثر فى احترام قيمة الوطن- أقول كيف يقبل رجل أن يصافح أحدًا من الجماعة الإرهابية ولا يبصر الدم فى كل كف.. كيف يصدق مقولات من قبيل جئناك كى تحقن الدم.. جئناك كن يا أمير الحكم.. ها نحن أبناء عم.. ولا يقول لهم.. إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك؟
هل نستطيع أن نصافح هؤلاء القتلة دون أن نبصر الدم فى كل كف، دون أن ننسى دروس التاريخ، بأن سهمًا أتاهم من الخلف؟ سوف يأتينا من كل خلف لن نتصالح؛ لأن التصالح بين ندين فى شرف الخصومة لا ينقض، وهؤلاء القتلة لم يضعوا لشرف الخصومة اعتبارا ولا للدم هيبة، استحلوا دم أبناء الوطن، بل الوطن ذاته واستباحوا أعراضه يومًا بعد يوم».
نثق تمامًا أن جماهير ثورة ٣٠ يونيو، ترفض ذلك، وهى التى خرجت رافضة لحكم المرشد، والتى دفع أبناؤنا من ضباط الجيش والشرطة، ومن المدنيين دماءهم وأرواحهم ثمنًا غاليًا للدفاع عن سيادتها والتى كان جوهرها، «لا لحكم المرشد لا للجماعة الخائنة للوطن».
الحقيقة أن جوقة الداعين للمصالحة يتوازى معها، وفى نفس الوقت أصوات أخرى تتحدث عن قهر أمنى، واغتصاب للسلطة وضياع للحريات والنتيجة أننا نحتاج إلى ثورة أخرى تعيد الميزان لوضعه المعتدل، والغريب أن أحدًا من هؤلاء الذين يرددون هذا الكلام فى هذا التوقيت لا يبصرون قوافل الشهداء من جنود وضباط الجيش والشرطة الذين تقتلهم الجماعة الإرهابية بدم بارد ولا يسمعون صوت الشهيد وهو يردد: كنت أغفر لو أننى مت ما بين خيط الصواب وخيط الخطأ.. لم أكن غازيًا.. لم أكن أتسلل قرب مضاربهم.. لم أمد يدًا لثمار الكروم.. أرض بستانهم لم أطأ.. لم يصح قاتلى بى انتبه.. كان يمشى معى.. ثم صافحنى.. لكنه فى الغصون اختبأ.. فجأة ثقبتنى قشعريرة بين ضلعين واهتز قلبى -كفقاعة- وأنفثا!
لم يسمعوا كلمات الشهيد الصديق محمد مبروك التى أتخيل أنه يتلوها علينا قبيل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة: «الذى اغتالنى ليس أنبل منى.. ليقتلنى بسكينته.. ليس أمهر منى ليقتلنى باستدارته الماكرة.. لا تصالح.. فما الصلح إلا معاهدة بين ندين.. فى شرف القلب لا تنتقض.. الذى اغتالنى محض لص.. سرق الأرض من بين عينى.. والصمت يطلق ضحكته الساخرة».
وفى كل لحظة، أتذكر وجه ابنته حبيبة، عندما سألتها عن اغتيال أبيها الشهيد مبروك، غدرًا على يد مجرمى الجماعة الإرهابية، المسماة بالإخوان قالت لي: «أبى لا مزيد، إنه العدل».
حينها تذكرت قول اليمامة بنت كليب، عندما جاءها العرب يطالبونها بأن تكف الحرب على من قتلوا أباها فقالت قولتها الشهيرة: «أبى لا مزيد، أريد أبى فوق بوابة القصر فوق حِصان الحقيقة، منتصبًا من جديد، ولا أطلب المستحيل إنه العدل».
إنه الغدر.. فى كرداسة، فى الفرافرة، فى سيناء، فى الفيوم، فى المنيا، فى أسيوط، فى الأقصر.. عمليات إرهابية عديدة راح ضحيتها العشرات من أبنائنا من الجيش والشرطة.. من يملك المساومة على دمائهم ولا يسمع صوت أبنائهم وهم يصرخون عندما تأتى سيرة المصالحة.
نعم، عندما تذهبون إلى المصالحة مع مصاصى الدماء يجب أن تعيدوا لهؤلاء اليتامى آباءهم، لهؤلاء النسوة اللابسات الحداد أزواجهن، لهؤلاء الأمهات والآباء الذين فقدوا أبصارهم حزنًا وكمدًا على أبنائهم، نور أبصارهم.
يجب أن نسأل أنفسنا قبل أن تلوك ألسنتنا حديث المصالحة، هل تتحول دماء هؤلاء الشهداء بين عيوننا.. فى لحظة من لحظات ضعفنا ماءً؟
هذا هو السؤال الذى سيظل يطاردنا فى نومنا وفى صحونا إلى أن يجد إجابة شافية.
وربما يتساءل البعض: ألم يقتل منهم رجال ونساء أيضًا؟ ويرد عليهم شهداؤنا.. لا تصالح على الدم حتى بدم.. لا تصالح ولو قيل رأس برأس.. أكل الرؤوس سواء.. وهل تتساوى يد.. سيفها كان لك.. بيد سيفها أثكلك.. لا تصالح ولا تتوخى الهرب.
أعرف أن لا أحد يستطيع فى مصر أن يقول بالمصالحة إلا الذين يدورون فى فلك الدول الداعمة للإرهاب وحلفائها من الأتراك والقطريين والجماعة الإرهابية، هؤلاء الذين يسعون دائمًا لاستغلال أى ثغرة يدخلون من خلالها إلى قلب وطننا الحبيب، فى توقيت تتعرض فيه البلاد لأكبر مؤامرة فى تاريخها تستهدف تقسيمها وتفتيت جيشها وهو ما يلقى علينا أعباءً كبيرة فى هذه اللحظة لنعلن جميعًا بصوتٍ عالٍ ومخلصٍ وجرىء أن لا قدم فى بلادنا لعملاء الدول الداعمة للإرهاب وحلفائها من رجال الطابور الخامس.. الذين يسعون بيننا تارة بالمصالحة وتارة أخرى بالحديث عن ديمقراطية الإفراج عن الجواسيس والخونة وبائعى الأوطان.. ثم يصمتون كالموتى، عندما يقصف قلم أو تغلق جريدة أو يوقف برنامج تليفزيونى هنا لا يحسون بمغص الديمقراطية يسرى فى معدتهم، ولا رعشة حمى الحريات تسرى فى أجسادهم، فقط عندما تأتى التوجيهات من دوائر معينة بالخارج يتحرك الجميع على رقعة الشطرنج وفق خطة واحدة للإجهاز على هذا الوطن.
لا شىء يكسرنا، أعلم، لكن الحرص واجب، والحيطة مطلوبة، وفضح المتخاذلين الذين ينخرون فى عظام هذا البلد هو التحدى الأكبر.
إن الحمام المطوق لا يقدم بيضته للثعابين.. حتى يسود السلام.. فمن يطالبنى أن أقدم رأس أخى ثمنًا لتمر القوافل آمنة.. وتبيع بسوق دمشق حريرًا من الهند.. وأسلحة من بخارى.. وتبتاع من بيت جالا العبيد!
باسم شعبٍ أبىٍ شجاع، لا يخاف فى الحق لومة لائم، وباسم كل شهيد سالت دماؤه الزكية دفاعًا عن دينه وعرضه، ووطنه وشعبه، نحذر من دعوات المصالحة المشبوهة، ونقول بكل وضوح: «الملايين التى خرجت فى ٣٠ يونيو، رافضة حكم الجماعة المشبوهة، وتحملت طوال السنوات السابقة سوف تخرج أضعافا مضاعفة، إذا خرج هذا الحديث عما يسمى بالمصالحة، مع تلك الجماعة الإرهابية من الهمس إلى العلن وسوف تكون هذه هى الطامة الكبرى».
أقول للأمهات اللاتى غُدر بأبنائهن، إننا معكن وبينكن، ونعدكن دائما أن نكون بجواركن، يدًا بيد وكتفًا بكتف حتى ننتصر وينتصر الوطن، على تلك الفئة الضالة وعلى حلفائها فى الداخل والخارج.
ويبقى الشعر خالدًا خلود الوطن وشهدائه الأبرار:
«ما تكتبوش اسمى على قبرى ولا تنصبوش شاهد، ولا تزرعوش صبارة، ولا تلعبوش معايا.. لعبة الأشعار، هى الحكاية بأمانة لما لقيت وش الوطن بيضيع قررت أفدى الجميع وهتفت باسم الوطن.. والوطن هو الديانة والوطن من غير ما نواجههم جناية».
وسلامًا على الأبرار شهداء مصر الخالدين على مر الزمان.