عندما يتزوج المرء، رجلًا كان أو امرأة، ويرزق بأول مولود يفرح فرحًا بالغًا، لأنه أصبح أبًا أو أمًا، متصورًا أن مهمته كأب أو أم انتهت عند هذا الحد، وأن رسالته قد اكتملت، وكأن القدرة على الإنجاب كافية لأن تخلع عليه صفة الأبوة أو الأمومة، غافلًا عن أن الإنسان والحيوان يشتركان فى هذه القدرة، وأن ما يميز الإنسان عن الحيوان هو أن الإنسان يحتاج إلى تنشئة ورعاية نفسية وعقلية واجتماعية، بجانب الرعاية الصحية بطبيعة الحال، أو بعبارة مختصرة يحتاج إلى «تربية».
إن تلقين بعض المبادئ الأخلاقية للطفل لا يكفى وحده لتنشئة هذا الطفل تنشئة سليمة، وإنما الأكثر أهمية أن تتحول هذه المبادئ إلى سلوك، فإذا أخذنا أحد المبادئ الأخلاقية التى لا خلاف حولها، وهو المبدأ القائل بأن «لا تكذب» بسبب أن «الكذب رذيلة»، هذا المبدأ نلقنه جميعًا لأبنائنا، ونتصور أن مهمتنا كآباء وأمهات تنحصر فى عملية التلقين هذه، وننسى أن الأطفال هم أجهزة رصد دقيقة وحساسة، فالطفل يرصد كل أقوالنا وأفعالنا، والفرق بينه وبين أجهزة الرصد الآلية، هو أنه لا يقتصر على الرصد، وإنما يتأثر ويتشكل فى آن واحد، ولنتأمل ـ على ضوء ذلك ـ حالة الطفل الذى يوبخه والده وقد يضربه لأنه كذب عليه، وبعد دقائق قليلة يدق جرس التليفون، فترد الأم على المتحدث، فيخبرها أنه يريد محادثة الأب فيشير الأب إلى الأم ـ على مرأى ومسمع من الابن ـ بأن تبلغ المتحدث بأنه ليس موجودًا. فالأب يكذب، ويطلب من الأم أن تكذب على مرأى ومسمع من الطفل الذى عوقب منذ قليل بسبب الكذب، إن هذا لكفيل بإرباك الطفل إرباكًا شديدًا من الناحيتين النفسية والأخلاقية.
أو الأم التى تطلب من طفلها ألا يخبر أباه بما شاهده من «مصائب وبلاوى» أثناء غياب الأب، وتنذره بعقاب شديد إذا تجرأ هذا الطفل ونطق بشىء مما حدث!!.. هل ننتظر أو نأمل أن ينمو هذا الطفل نموًا سويًا؟.
من المؤكد أن مثل هذا الطفل، خاصةٍ إذا تكرر إجباره على الكذب وإخفاء الحقائق، سيصير إنسانًا معدوم الثقة فى ذاته وفى الناس.
ومن المفاهيم التربوية الخاطئة أيضًا، اعتقاد بعض الآباء بأن «طاعة الأبناء» لهم، هى المعيار الأمثل للتربية السليمة، وأن الطاعة «فضيلة كبرى» فى حين أنها فى حقيقة الأمر «مصيبة سوداء»، فهى فى أكثر الأحيان تدمر شخصية الطفل، وتجعل منه فى المستقبل إنسانًا خاضعًا خانعًا معدوم الإرادة!.
منذ المراحل الأولى من عمر الطفل تعمل الأسرة العربية بوجه عام، والأسرة المصرية بوجه خاص على ترسيخ مبدأ طاعة الأبناء للآباء، دون الانتباه إلى الآثار السيئة المترتبة على سيادة هذا المبدأ، لأن المرء حين يجبر على الطاعة يفقد ذاتيته، وتنمحى فرديته وتطمس شخصيته، ويصبح من السهل انقياده لغيره، لذلك يصف الدكتور فؤاد زكريا «الطاعة» بأنها «مرض» فيقول فى مقال له بعنوان «مرض عربى اسمه الطاعة» نشره فى مجلة العربى العدد ٣٣٢ - يوليو ١٩٨٦:
«يعمل تراث شعبى كامل على ترسيخ فكرة الطاعة بين الأبناء والآباء، وكأنها هى النموذج الأعلى للسلوك الأسرى المثالى، وحين يتكرر هذا النموذج عبر عشرات الأجيال، تكون النتيجة الطبيعية هى جمود المجتمع بأكمله وانعدام التجديد فيه».
نربى أبناءنا بطريقة خاطئة!، نحن أيضًا تمت تربيتنا على نحو سيئ!. آباؤنا وأمهاتنا تربوا هم أيضًا على الخضوع والخنوع داخل الأسرة والمدرسة تحت يافطة كبيرة براقة اسمها «الطاعة»، فى حين أنها فى حقيقتها «قهر» و«خضوع» و«خنوع». جيل وراء جيل عبر مئات السنين، ترسخ «مبدأ الطاعة» فى عقل ووجدان الناس، وصارت «الطاعة» قيمة سائدة فى مجتمعنا، حتى صارت سمة من سماتنا، وجزءًا من بنائنا العقلى والوجدانى، نتقبل الأفكار دون فحص أو نقد. نسلم بكل ما قال به السابقون تسليمًا أعمى بوصفه قولًا مقدسًا.. فتخلفنا وفقدنا القدرة على الإبداع، وأصبح فى وسع أى حاكم أو مدير أو رئيس فى العمل أن يقود الناس بيسر وسلاسة، وكأنهم مجموعة من الأنعام.
صارت بيوتنا «معامل تفريخ» لمواطنين خانعين وخاضعين للانصياع لأى حاكم مستبد، مهما كان فقر إمكاناته، وضآلة شأنه، وأصبحت مدارسنا وجامعاتنا معسكرات لإعداد مواطنين جاهزين لتلقى الأوامر من كل من «هب ودب» حاكمًا كان أو مديرًا أو رئيسًا فى العمل، وتنفيذ هذه الأوامر بخضوع وخنوع مهما كانت ظالمة ومجحفة!.
يؤكد د. فؤاد زكريا أن «التمرد» هو قيمة أيضًا، لذلك يقول: «إن أعظم إنجازات الإنسان لم تتحقق إلا على أيدى أولئك الذين رفضوا أن يكونوا «مطيعين»، فالمصلحون الذين غيروا مجرى التاريخ لم يطيعوا ما تمليه عليهم أوضاع مجتمعاتهم، وأصحاب الكشوف العلمية الكبرى لم يطيعوا الآراء السائدة عن العلم فى عصورهم، والفنانون العظام لم يطيعوا القواعد التقليدية التى كان يسير عليها أسلافهم، وهكذا فإن كل شىء عظيم أنجزته البشرية كان مقترنًا بقدر من التمرد، ومن الخروج على مبدأ الطاعة».
إذا كان الدكتور فؤاد زكريا، قد أكد أن «التمرد» قيمة، فإننى أرى أن «الحوار» كقيمة يمكنها أن تحل محل مبدأ الطاعة، لذلك علينا ألا نجبر أبناءنا على طاعتنا، بل ينبغى أن ينصب حرصنا على إقامة حوار بيننا وبينهم، وأن تتسع صدورنا لهذا الحوار حتى تترسخ قيمة الحوار البناء فى وجدان الآباء والأبناء على حد سواء.